م?ن?ت?دي?ات م?م?ل?ك?ه رن?وش

اهلا وسهلا بيك اخي الزائر انت الان في منتديات و دردشة صوتية مملكة رنوش


اذا لم تكون مسجل لدينا سجل الان وسوف ترى المفاجئات في منتديات و رومات مملكة رنوش

اهلا وسهلا بكم

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

م?ن?ت?دي?ات م?م?ل?ك?ه رن?وش

اهلا وسهلا بيك اخي الزائر انت الان في منتديات و دردشة صوتية مملكة رنوش


اذا لم تكون مسجل لدينا سجل الان وسوف ترى المفاجئات في منتديات و رومات مملكة رنوش

اهلا وسهلا بكم

م?ن?ت?دي?ات م?م?ل?ك?ه رن?وش

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
م?ن?ت?دي?ات م?م?ل?ك?ه رن?وش

اهلا وسهلا بيكم في منتديات ورومات مملكة رنوش

 

2 مشترك

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله الجمعة فبراير 22, 2008 3:41 pm

    هذه الرواية هي المفضله عندي ... وهي اخر رواية للكاتب ماركيز
    الفصل الأول

    في السنة التسعين من سنوات حياتي، رغبت في أن أهدي إلى نفسي ليلة حب مجنون، مع مراهقة عذراء. تذكرت روسا كباركاس، صاحبة بيت سري، اعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين، عندما يكون تحت تصرفها جديد جاهز. لم أستسلم قط لهذا الإغراء، أو لأي واحد آخر من إغراءاتها الفاحشة، ولكنها لم تكن تؤمن بنقاء مبادئي. فكانت تقول بابتسامة خبيثة: الأخلاق مسألة زمن أيضا ، ولسوف ترى. كانت أصغر مني بعض الشيء، ولم تعد لدي أخبار عنها منذ سنوات طويلة، بحيث يمكن أن تكون قد ماتت. ولكنني، منذ الرنين الأول، تعرفت على صوتها في الهاتف، وبادرتها دون مقدمات:
    - اليوم، أجل.
    فتنهدت قائلة: آه، يا عالمي الحزين، تختفي عشرين عاما، وتعود لتطلب مستحيلات فقط. وفورا، استعادت السيطرة على فنها، وعرضت علي ستة من الخيارات الشهية، ولكن عليك أن تعلم، جميعهن مستعملات. ألححت عليها أن لا، ويجب أن تكون عذراء، وأريدها هذه الليلة بالذات. فسألت مفزعة: ما الذي تريد أن تجربه؟ لا شيء، أجبتها مهانا، حيث تسبب الإهانة لي أكبر ألم، فأنا أعرف جيدا ما أستطيعه وما لا أستطيعه. فردت دون تأثر بأن العلماء يعرفون كل شيء، ولكن ليس كل شيء: فالوحيدون الآخذون بالبقاء من مواليد برج العذراء هم أنتم أناس آب. لماذا لم تطلب مني ذلك قبل بعض الوقت؟ فأجبتها: الإلهام لا يعطي إنذارا مسبقا. ولكن ، ربما أستطيع، انتظر، قالت ذلك، وهي أكثر علما على الدوام من أي رجل، وطلبت مني، ولو يومين، لتتقصى السوق بعمق. فرددت عليها بجد أنه في صفقة مثل تلك، وفي مثل عمري، تكون كل ساعة سنة. قالت هي دون مجال للشك: ليس ممكنا إذن، ثم أضافت: ولكن لا يهم، فالأمر هكذا أكثر إثارة، يا للعنة، سأتصل بك بعد ساعة.
    لا حاجة لأن أقول ذلك لأنه يمكن تمييزي عن بعد فراسخ: أنا قبيح خجول، ومن زمن مضى. لكنني لعدم رغبتي في أن أكون كذلك، رحت أتصنع العكس تماما، حتى شمس هذا اليوم، الذي قررت فيه أن أروي لنفسي كيف أنا، بمشيئتي الحرة والخاصة، ولو لمجرد طمأنة ضميري. لقد بدأت بمكالمتي غير المألوفة مع روسا كاباركاس، لأن تلك المكالمة، وأنا أنظر إليها اليوم، كانت بداية حياة جديدة، في سن يكون فيها معظم البشر الفانين قد ماتوا.
    إنني أعيش في بيت من الطراز الكولونيالي، على رصيف شمس حديقة سان نيكولاس، حيث أمضيت كل أيام حياتي، بلا امرأة وبلا ثروة، وحيث عاش ومات أبواي، وحيث قررت أن أموت وحيدا، على السرير نفسه الذي ولدت فيه، وفي يوم أرغب أن يكون بعيدا، وبلا ألم. لقد اشترى أبي البيت في مزاد علني، في أواخر القرن التاسع عشر، فأجر الطابق الأرضي، كمتاجر فاخرة لشركة يملكها إيطاليون، واحتفظ لنفسه بهذا الطابق الثاني، ليعيش سعيدا مع ابنة أحد أولئك الإيطاليين، فلورينا دي ديوس كارغامنتوس، عازفة ماهرة لموسيقى موزارت، ومتعددة اللغات، وغاريبالدية، والمرأة الأكثر جمالا والأفضل موهبة بين كل من عرفتهن المدينة على الإطلاق: إنها أمي.
    نطاق البيت واسع ومنير، فيه أعمدة من المرمر، وأرضيات شطرنجية من الموزاييك الفلورنسي، وأربعة من أبواب زجاجية تتفتح على شرفة بارزة حيث كانت تجلس أمي في ليالي آذار، لتردد أغنيات حب مع بنات عمومتها الايطاليات. ومن هناك، ترى حديقة سان نيكولاس، ومعها الكاتدرائية وتمثال كريستوف كولومبس، وإلى الوراء منها حانات المرسى النهري، والأفق الفسيح لنهر مجدالينا الكبير، على بعد عشرين فرسخا من مصبه. الشيء الوحيد غير اللطيف في البيت، هو أن الشمس تنتقل من نافذة إلى أخرى خلال النهار، ويتوجب إغلاقها جميعها من أجل محاولة نوم القيلولة في العتمة الحارقة. عندما بقيت وحيدا، وأنا في الثانية والثلاثين من عمري، انتقلت إلى ما كان مخدع أبوي، وفتحت بابا للمرور إلى غرفة المكتبة وبدأت أبيع في المزاد كل ما يفيض عن حاجتي لكي أعيش، وانتهى الأمر بما يفيض عن حاجتي إلى أن يكون كل شيء باستثناء الكتب وأرغن اللفافات.
    لقد كنتُ طوال أربعين سنة، مصحح البرقيات في جريدة دياريو لا باث، وهي مهمة تتلخص في ترميم أخبار العالم التي نتلقفها من الفضاء الفلكي، على الموجات القصيرة أو من رموز شفرة مورس، واستكمالها بنثر محلي. وأنا اليوم أعيش بين بين، على معاشي التقاعدي من تلك المهنة المنقرضة؛ وأعيش بقدر أقل على تقاعدي كأستاذ نحو قشتالي ولاتيني، ولا أكاد أكسب شيئا تقريبا من عمود يوم الأحد الذي أكتبه للجريدة دون توقف، منذ أكثر من نصف قرن، ولا أكسب شيئا على الإطلاق من تعليقاتي الموسيقية والمسرحية التي ينشرونها مجانا في المرات الكثيرة التي يأتي فيها عازفون بارزون. لم أفعل شيئا قط غير الكتابة، ولكنني لا أمتلك موهبة الروائي ولا مزيته، وأجهل تماما قوانين التأليف الدرامي، وإذا كنت قد ورطت نفسي في هذا المشروع، فلأنني أثق بنور الكثير الذي قرأته في الحياة. وهذا يعني، بلغة رومانس فجة، أنني نهاية سلالة بلا مزايا ولا بريق، ليس لديه ما يورثه لأحيائه سوى هذه الوقائع التي أتهيأ لروايتها كيفما أمكن، في هذا الاستذكار للحب الكبير.
    تذكرت يوم إكمالي تسعين سنة، كالعادة، في الخامسة صباحا. وكان التزامي الوحيد، لأن اليوم جمعة، هو كتابة عمودي الصحفي الذي يحمل توقيعي، وينشر أيام الآحاد في ريو دي لا باث. كان يمكن لأعراض الفجر أن تكون ملائمة تماما لانعدام السعادة: فقد كانت تؤلمني عظامي منذ الصباح الباكر، وهناك حرقة في شرجي، وكان هناك رعد عاصفة، بعد ثلاثة شهور من الجفاف. استحممت فيما كانت القهوة تسخن، تناولت فنجانا محلى بعسل النحل، ومعه قرصان من الكاثابيه، ولبست أفرهولي البيتي الكتاني الفضفاض.
    موضوع مقالتي لذلك اليوم، وكيف لا، هو سنواتي التسعون. لم أفكر قط في السن على أنها ثقب في السقف يقطر الماء منه، لينبه أحدنا إلى كمية الحياة الآخذة بالتبقي له. لقد سمعت منذ طفولتي المبكرة أن القمل الذي يتكاثر في الشعر يهرب مذعورا على الوسائد، عندما يموت الشخص، مسببا الحرج والخجل للأسرة. وكان هذا عبرة لأتجنب ذلك المصير، فسمحت بقص شعر رأسي كله عندما ذهبت إلى المدرسة، وما زلت أغسل خصلات الشعر القليلة المتبقية لي، بصابون الكلب الشكور. هذا يعني، وأقوله الآن، إن حس الحياء الاجتماعي كان، منذ طفولتي المبكرة، أفضل تكونا لدي من حس الموت.
    لقد احتطت منذ شهور، كيلا يكون مقالي في ذكراي، مجرد حسرة على السنوات الذاهبة، وإنما العكس تماما: تمجيد للشيخوخة. بدأت بالتساؤل، متى بدأت أعي أنني صرت عجوزا، وأظن أن الأمر حدث قبل وقت قصير جدا من ذلك اليوم. ففي الثانية والأربعين من عمري لجأت إلى الطبيب لألم في ظهري، سبب لي ضيقا في التنفس، فلم يول الطبيب أهمية للأمر، وقال لي: إنه ألم عادي في مثل سنك.
    فقلت له:
    - غير العادي إذن، في هذه الحالة، هي سني.
    ابتسم لي الطبيب ابتسامة مشفقة، وقال: أرى أنك فيلسوف. كانت تلك هي المرة الأولى التي فكرت فيها بسني، بمعايير الشيخوخة ولكنني سرعان ما نسيت ذلك. اعتدت على الاستيقاظ كل يوم بألم مختلف، يبدل موضعه وأسلوبه مع مرور السنوات، فهو يبدو أحيانا كمخلب الموت، وفي اليوم التالي يزول. وقد سمعت، في تلك الفترة من يقول إن أول أعراض الشيخوخة هو بدء الأمر بالتشابه مع أبيه. لا بد أنني محكوم بالشباب الأبدي. هذا ما فكرت فيه آنذاك، لأن بروفيلي الحصاني ليس فيه أي شبه على الإطلاق بالبروفيل الكاريبي الخام الذي كان عليه أبي، ولا بروفيل أمي الروماني الإمبراطوري، والحقيقة هي أن أول التبدلات تكون شديدة البطء، لا تكاد تلحظ، ويواصل أحدنا العيش، بينه وبين نفسه، مثلما كان على الدوام، إلا أن الآخرين يلحظون التبدلات من الخارج.
    في العقد الخامس، بدأت أتخيل ما هي الشيخوخة، عندما انتبهت إلى أولى فجوات الذاكرة. كنت أذرع البيت بحثا عن النظارة، ثم اكتشفت أنني أضعها على عيني، أو أدخل بها تحت مرشة الاستحمام، أو أضع نظارة القراءة دون أن أنزع نظارة بعد البصر. وفي أحد الأيام تناولت الفطور مرتين، لأنني نسيت المرة الأولى منهما ؛ وتعلمت التعرف إلى ضيق أصدقائي عندما لا يجرؤون على تنبيهي إلى أنني أروي لهم الحكاية نفسها التي رويتها الأسبوع الفائت. في ذلك الحين، كانت هناك في ذاكرتي قائمة وجوه معروفة، وقائمة أخرى باسم كل واحد من أصحاب تلك الوجوه، ولكنني في لحظة تبادل التحية، لا أتوصل إلى المطابقة بين الوجوه والأسماء.
    عمري الجنسي لم يقلقني قط، لأن قدراتي الجنسية لا تعتمد علي أنا نفسي بقدر ما تعتمد عليهن، وهن يعرفن كيف يفعلن ذلك وماذا يفعلن، عندما يشأن. إنني أضحك اليوم من الفتيان الذين في الثمانين، ممن يستشيرون الطبيب مذعورين من هذه التبدلات المفاجئة دون أن يدروا أنها ستكون أسوأ في التسعين، ولكنها لا تهم: إنها مخاطر بقاء المرء حيا. وما يمكن اعتباره نصرا للحياة، بالمقابل أن ذاكرة المسنين تضيع في الأمور غير الجوهرية، ولكنها نادرا ما تخطئ في الأمور التي تهمنا حقا. وقد أوضح شيشرون ذلك بجرة قلم: لا وجود لمسن ينسى أين خبأ كنزه.
    بهذه الأفكار، وأخرى عديدة أنهيت المسودة الأولى لمقالتي، عندما اندلعت شمس آب من بين أشجار اللوز في الحديقة: ودخلت سفينة البريد النهرية، المتأخرة أسبوعا بسبب الجفاف، في قنال المرفأ وهي تجأر. فكرتُ: إلى هنا وصلت سنواتي التسعون. لن أعرف السبب أبدا. ولست أسعى إلى معرفته، ولكن الأمر كان تعويذة للتعزيم على ذلك الاستذكار المدمر، عندما قررت الاتصال هاتفيا بروسا كاباركاسن كي تساعدني في تكريم ذكراي بليلة ماجنة. كنت قد أمضيت سنوات في سلام مقدس مع جسدي مكرسا نفسي لإعادة قراءة غير منتظمة للكلاسيكيين الذين أفضلهم، ولبرامج موسيقاي الخاصة المنتقاة، غير أن رغبتي في ذلك اليوم كانت ملحة، حتى إنها بدت لي رسالة من الرب. بعد المكالمة، لم أستطع مواصلة الكتابة علقت أرجوحة النوم في ركن المكتبة، حيث لا تصل شمس الصباح، واستلقيت بصدر منقبض بلهفة الانتظار.
    لقد كنت طفلا مدللا لأب متعدد المواهب قضى عليه السل وهو في الخمسين، ومتمسك بالشكليات لم يعرف له خطأ قط ، وطلع عليه الصباح ميتا في فراش ترمله، في يوم توقيع معاهدة نيرلاندا التي وضعت حدا لحرب الألف يوم، وحروب القرن الماضي الأهلية الكثيرة. لقد بدل السلام المدينة في اتجاه لم يكن متوقعا ولا مرغوبا. فقد أغنى حشد من النساء المتحررات، حتى الهذيان، الحانات القديمة، في شارع أنتشا الذي تحول بعد ذلك إلى ممر آبييو، وهو الآن جادة كولومبس، في مدينة روحي هذه التي يقدرها المقربون والغرباء لطيب طباع ناسها وصفاء ضوئها.
    لم أضاجع امرأة قط دون أن أدفع لها! والقليلات اللواتي لم يكن من نساء المهنة، أقنعتهن بالحجة أو بالإكراه، بأن يأخذن النقود ولو لمجرد رميها في القمامة. منذ العشرين من عمري بدأت بوضع سجل بالاسم، والسن، والمكان، وبموجز تذكيري بالظرف والأسلوب. فكنّ حتى الخمسين من عمري خمسمائة وأربع عشرة امرأة، ضاجعت كل واحدة منهن مرة واحدة على الأقل. أوقفت تلك القائمة عندما لم يعد الجسد قادرا على الكثير، وواصلت الحساب بلا أوراق. لقد كانت لي أخلاقياتي الخاصة. فأنا لم أشارك قط في عربدة جماعية، ولا في معاشرات عامة، ولم أشاطر أحدا الأسرار، ولا رويت لأحد مغامرة من مغامرات الجسد أو الروح. فقد أدركت منذ شبابي أنه لا يمكن لأي من ذلك كله أن يمر دون حساب.
    العلاقة الغريبة الوحيدة هي تلك التي أقمتها لسنوات، مع داميانا الوفية. لقد كانت طفلة تقريبا، شبه هندية، وقوية وبدائية، كلامها قليل وحاسم، تتنقل حافية كيلا تزعجني وأنا أكتب. أتذكر أنني كنت أقرأ (النضارة الأندلسية) في أرجوحة النوم في الردهة، ورأيتها مصادفة تنحني على حوض غسل الثياب، بتنورة قصيرة جدا، تكشف تكوراتها الغضة. ومدفوعا بحمى لا تقاوم، رفعتها من وراء، أنزلت لها سروالها الداخلي حتى الركبتين، انقضضت بالمقلوب. فقالت هي، بآهة كئيبة: آي، يا سيدي، هذا لم يخلق للإدخال وإنما للإخراج. زلزلة عميقة هزت جسدها ولكنها ظلت ثابتة. ولإحساسي بالمهانة، لأنني امتهنتها، أردت أن أدفع لها ضعف ما كانت تتقاضاه أغلاهنّ آنذاك، ولكنها لم تقبل ولا فلسا واحدا. فكان علي أن أزيد راتبها بقيمة مضاجعة كل شهر، ودوما وهي تغسل الملابس، ودائما في الاتجاه المعاكس.
    لقد فكرت في بعض الأحيان بأنه يمكن لسجلات الفراش تلك، أن تكون دعامة لقصة عن بؤس حياتي الضائعة، ونزل علي العنوان من السماء (ذاكرة غانياتي الحزينات)، حياتي العامة بالمقابل، تخلو مما هو مشوق ومثير للاهتمام: يتيم الأب والأم، أعزب بلا مستقبل، صحفي متوسط الإمكانيات، ومتوصل أربع مرات إلى التصفية النهائية في مسابقات كارتاخينا دي إندياس الشعرية، والشخص المفضل لرسم الكاريكاتير بسبب قبحي النموذجي. هذا يعني: حياة ضائعة بدأت، بصورة سيئة، مساء اليوم الذي أخذتني فيه أمي من يدي، وأنا في التاسعة عشرة من عمري، إلى صحيفة (دياريو دي لا باث) لترى إن كان بإمكانها التوصل إلى نشر عرض عن الحياة المدرسية، كنت قد كتبته لمادة اللغة القشتالية والخطابة. وقد نشر يوم الأحد، مع تقديم تشجيعي كتبه مدير الجريدة. وبعد مرور سنوات، حين عرفت أن أمي قد دفعت مقابل نشره، ومقابل نشر مقالاتي السبع التالية كذلك، كان الوقت قد فات للشعور بالخجل، إذ كان عمودي الصحفي الأسبوعي يحلق بجناحيه الخاصين، وكنت قد سرت فوق ذلك مصحح البرقيات، وناقدا موسيقيا.
    منذ حصولي على شهادة الثانوية بدرجة امتياز، بدأت بإعطاء دروس في اللغة القشتالية واللاتينية، في ثلاث مدارس عامة، في الوقت نفسه. كنت أستاذا سيئا بلا ميول، وبلا أي شفقة على أولئك الأطفال المساكين الذين يذهبون إلى المدرسة، باعتبارها أسهل الطرق للهرب من طغيان آبائهم. الشيء الوحيد الذي استطعت عمله لهم، هو إبقاؤهم تحت رعب مسطرتي الخشبية، لكي يحفظوا عني على الأقل، قصيدتي المفضلة: (هذي التي تراها الآن يا فابيو، ويا للألم، مجرد حقول عزلة وربوة ذاوية كانت في زمن مضى إيتاليكا الشهيرة). وفي شيخوختي فقط عرفت مصادفة اللقب الخبيث الذي أطلقه علي التلاميذ من وراء ظهري: الأستاذ ربوة ذاوية. هذا هو ما منحتني إياه الحياة، ولم أفعل شيئا لأستخلص منها المزيد. كنت أتناول الغداء وحيدا، في الاستراحة بين حصة وأخرى. وفي الساعة السادسة مساء أصل إلى مكاتب تحرير الجريدة، لأتصيد الأخبار عن الفضاء الفلكي. وفي الحادية عشرة ليلا عند إغلاق الطبعة تبدأ حياتي الحقيقية.
    كنت أنام في الحي الصيني مرتين أو ثلاث مرات كل أسبوع، مع رفقة شديدة التنوع، حتى إنني توّجت مرتين بلقب (زبون السنة)، فبعد العشاء في مقهى روما القريب، أختار أيّا من المواخير دون تعيين، وأدخل خفية من بوابة الفناء الخلفي. كنت أدخل من هناك بدافع المتعة، ولكن الأمر تحول إلى جزء من مهنتي، بفضل خفة لسان كبار ثرثاري السياسة، ممن يقدمون لعشيقات ليلة عابرة، ما لديهم من أسرار الدولة، دون أن يخطر ببالهم أن الرأي العام يسمع أصواتهم من خلال الجدران الكرتونية. عن هذه الطريق ،وكيف لا، اكتشفت أيضا أنهم يعزون عزوبتي التي لا عزاء لها، إلى ميول لوطية ليلية أشبعها مع أطفال أيتام في شارع دي لاكريمن. وقد حالفني الحفظ بنسيان ذلك لأنني إضافة إلى أسباب طيبة أخرى، عرفت أيضا الأشياء الجيدة التي كانت تقال عني، وقدرتها بما تستحق.
    لم يكن لي أصدقاء حميمون قط، والقلة الذين تمكنوا من الاقتراب مني، هم الآن في نيويورك. هذا يعني أنهم ميتون. لأن ذلك هو المكان الذي أفترض أن الأرواح المحزونة تذهب إليه، كيلا تتمثل حقيقة حياتها الماضية. منذ تقاعدي لم يعد لدي إلا القليل لأعمله، اللهم إلا حمل أوراقي إلى الجريدة أيام الجمعة مساء، أو القيام بمساع أخرى على شيء من الأهمية: حضور حفلات موسيقية في قاعة الفنون الجميلة، أو معارض رسم في المركز الفني، وأنا عضو مؤسس فيه؛ أو محاضرة تمدنية بين حين وآخر في جمعية الإصلاح العام؛ أو حدث كبير مثل موسم فابريغاس في مسرح أبولو.
    في شبابي، كنت أذهب إلى صالات السينما غير المسقوفة، حيث يمكن أن يفاجئنا خسوف قمري، أو نزلة صدرية مزدوجة، بفعل وابل مطر في غير أوانه، ولكنني لم أكن أهتم بالأفلام قدر اهتمامي بعصفورات الليل اللواتي يضاجعن بثمن تذكرة الدخول، أو يقدمن ذلك مجانا أو بالدين. فالسينما ليست من ميولي. وكان الإعجاب الداعر بشيلي تيمبل هو القطرة التي طفحت بها الكأس.
    الرحلات الوحيدة في حياتي، هي أربع رحلات إلى المسابقات الشعرية في كارتاخينا دي إندياس، قبل بلوغي الثلاثين، وليلية خبيثة في مركب ذي محرك، بدعوة من سكرامينتو مونتييل إلى افتتاح ماخور له في مدينة سانتا مارتا. أما بشأن حياتي المنزلية فأانا قليل الأكل وغير متطلب. عندما هرمت داميانا، ولم تعد تطبخ لي في البيت صارت وجبتي النظامية الوحيدة منذ ذلك الحين عجة البطاطا في مقهى روما بعد إغلاق الجريدة.
    ولهذا ظللت عشية إكمالي التسعين سنة دون غداء، ولم أستطع التركيز على القراءة، بانتظار أخبار من روسا كاباركاس. كانت الزيزان تصفر حد التقزز في قيظ الساعة الثانية، وقد أجبرني دوران الشمس على النوافذ المفتوحة على أن أبدل مكان أرجوحة النوم ثلاث مرات. لقد بدا لي على الدوام أن أيام ذكرى ميلادي هي الأشد حرا طوال العام، وقد تعلمت تحمل ذلك، غير أن مزاجي في ذلك اليوم لم يتح لي التحمل كثيرا. ففي الساعة الرابعة بعد الظهر، حاولت أن أهدئ نفسي بسماع مقطوعات التشيلو المنفرد الست، لجان سبستيان باخ، في نسختها النهائية لدون بابلو كاسالس. إنني أرى فيها ما تتضمنه الموسيقى كلها من حكمة. ولكنها بدل أن تهدئني كالعادة خلفتني في أسوأ حالات الوهن. غفوت مع السوناتا الثانية منها، وهي تبدو لي متكاسلة بعض الشيء. وفي الحلم اختلط علي أنين التشيلو بأنين سفينة حزينة مضت. وعلى الفور تقريبا أيقظني الهاتف، وأعاد لي الحياة صوت روسا كاباركاس الصدئ: إن لك حظا مجنونا، قالت لي، ثم أضافت: وجدت لك واحدة أفضل مما أردته أنت، ولكن هناك مشكلة: إنها تكاد لا تتجاوز الرابعة عشرة. قلت لها مازحا دون أن أفهم مسوغاتها: ليس لدي مانع في تبديل حفاظات. فقالت هي: الأمر لا يتعلق بك، ولكن من الذي سيدفع عني ثلاث سنوات سجن؟



    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله الجمعة فبراير 22, 2008 3:42 pm

    لن يكون هناك من يدفعها، وهي نفسها أقل من أي شخص آخر بالطبع. فهي تجني محصولها من بين قاصرات السن اللواتي يعرضن أنفسهن في محلها، فتدربهنّ وتعتصرهن، إلى أن ينتقلن إلى أسوأ حياة عاهرات مجازات، في ماخور إوفيميا الزنجية التاريخي. لم تدفع أي غرامة قط، لأن بيتها هو منتدى السلطات المحلية، ابتداء من المحافظ وحتى أصغر موظف في مقر المحافظة، ولم يكن ممكنا تصور أن صاحبة المحل تنقصها القدرات على ارتكاب المخالفات على هواها. وهكذا فإنه لا هدف من وساوسها، في اللحظة الأخيرة سوى جني منفعة أكبر من خدماتها: فالخدمة أغلى ثمنا كلما كانت أكثر عرضة للعقاب. تمت تسوية الخلاف بإضافة بيزوين اثنين إلى الخدمة. واتفقنا على أن أكون في بيتها الساعة العاشرة ليلا ومعي خمسة بيزوات نقدا ومقدما. ولا دقيقة واحدة قبل ذلك، لأن الطفلة يجب أن تقدم الطعام لإخوتها الصغار وتنومهم، وتنوم أمها المقعدة بفعل الروماتيزم.
    كانت لا تزال هناك أربع ساعات، وفي أثناء انقضائها كان قلبي يمتلئ بزبد حامض يعيق تنفسي. بذلت مجهودا عقيما لأمضي الوقت بإجراءات اللباس. لا جديد في الحقيقة، فحتى داميانا تقول إنني أرتدي ملابسي بطقوس سيد مطران. جرحت نفسي بشفرة الحلاقة، وكان علي أن أنتظر إلى أن يبرد ماء الدش الذي سخنته الشمس في الأنابيب. ومجرد الجهد البسيط في تجفيف جسدي بالمنشفة جعلني أتعرق من جديد. لبست ما يتوافق مغامرة الليلة: بدلة الكتان البيضاء، والقميص ذا الخطوط الزرق، والياقة المقساة بالنشاء، وربطة العنق الحريرية الصينية، والحذاء المستعاد الشباب والملمع بالزنك والساعة الذهبية ذات السلسلة المثبتة بعروة الياقة. وبعد ذلك طويت طرفي ساقي البنطال إلى الداخل كيلا يلاحظ أني تقلصت شبرا.
    يشاع عني أنني بخيل، لأنه ليس هناك من يتصور أنني فقير إلى هذا الحد، وأنا أسكن حيث أسكن، والحقيقة أن ليلة مثل تلك الليلة كانت أكبر بكثير من مواردي. أخرجت من صندوق مدخراتي الموضوع تحت السرير بيزوين اثنين لاستئجار الغرفة، وأربعة لصاحبة البيت، وثلاثة للصبية، وخمسة احتياطية لعشائي ونفقات ضئيلة أخرى. أي الأربعة عشر بيزوا التي تدفعها لي الجريدة مقابل شهر من مقالات يوم الأحد، خبأتها في جيب سري في الحزام، وتعطرت بمرشة ماء فلوريدا من صنع لانمان أند كيمب- باركلي أند كومباني. عندئذ أحسست بمخلب الذعر، ومع قرع ناقوس الساعة الثامنة الأول نزلت متلمسا طريقي على الدرج المظلم، متعرقا من الخوف، وخرجت إلى ليلة عشية ذكراي السنوية المشعة.
    كان الجو قد برد. جماعات من الرجال المتوحدين يتجادلون صارخين حول كرة القدم في جادة كولومبس، بين سيارات الأجرة المتوقفة صفا في منتصف الشارع. جوقة نحاسية تعزف فالسا فاترا، تحت أشجار الحور المزهرة. إحدى العاهرات البائسات اللواتي يصطدن زبائن معدمين في شارع (الكتبة العموميين) طلبت مني السيجار المعهودة وأجبتها الجواب الدائم نفسه: تركت التدخين منذ ثلاثة وثلاثين عاما وشهرين وسبعة عشر يوما. ولدى المرور أمام "السلك الذهبي" نظرت إلى الواجهات المضاءة ولم أر نفسي مثلما أشعر بها، وإنما أكثر شيخوخة وأسوأ ملبسا.
    قبل العاشرة بقليل ركبت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يوصلني إلى المقبرة الكونية، كيلا يعرف إلى أين أنا ذاهب في الواقع، نظر إلي من خلال المرآة وقال لي: لا تخفني بهذه الأمور أيها السيد العالم، أرجو من الله أن يبقيني بمثل حيويتك. نزلنا معا من السيارة قبالة المقبرة، لأنه لم يكن يملك نقودا فكة، وكان علينا أن نصرف النقود في (القبر)، وهي حانة بائسة يبكي فيها سكارى الفجر على موتاهم. عندما صفينا الحساب قال لي السائق بجد: كن حذرا يا دون، فبيت روسا كاباركاس لم يعد ولو مجرد خيال لما كان عليه، فلم أستطع إلا أن أشكره مقتنعا مثل الجميع بأنه لا وجود لأي سر تحت السماء يخفى على سائق جادة كولومبس.
    توغلت في حي فقراء لا علاقة له بالذي عرفته في أزمنتي. كانت الشوارع الفسيحة ذات الرمال الساخنة نفسها، ببيوت أبوابها مشرعة، وجدران من خشب غير مصقول، سقوف من السعف المر، وأفنية مفروشة بالحصى. لكن ناسها فقدوا الطمأنينة. وكانت هناك في معظم البيوت حفلات جمعة، يرتد صخبها وأطباقها في الأحشاء. يمكن لأي كان أن يدخل بخمسين سنتافو إلى الحفلة التي تروقه أكثر، إنما يمكنه كذلك أن يظل يرقص مجانا على الأرصفة. كنت أمشي متلهفا أن تبتلعني الأرض داخل أبهتي المزركشة، لكن أحدا لم يلتفت إليّ باستثناء خلاسي نحيل كان يجلس متناوما عند بوابة بيت جماعي. صرخ من كل قلبه:
    - وداعا يا دكتور. وأتمنى لك ضربا سعيدا.
    وماذا يمكنني أن أفعل سوى شكره؟ كان علي أن أتوقف ثلاث مرات كي ألتقط أنفاسي، قبل أن أبلغ المنحدر الأخير، ومن هناك رأيت القمر النحاسي الضخم الذي يرتفع في الأفق، وأحسست بتسرع غير متوقع في البطن. جعلني أخشى على مصيري، ولكنه مر مرورا عابرا. وفي نهاية الشارع، حيث يتحول الحي إلى غابة أشجار مثمرة، دخلت إلى حانوت روسا كاباركاس.
    لم تكن تبدو هي نفسها. لقد كانت فيما مضى أكثر القوادات تكتما، وبالتالي أكثرهن شهرة. امرأة ضخمة الحجم، كنا نريد تتويجها رقيب إطفائيين، سواء لضخامتها أو لفعاليتها في إطفاء شبق رجال المدينة. لكن الوحدة قلصت جسدها، وجعدت جلدها، وشحذت صوتها ببراعة شديدة. بدت معها كما لو أنها طفلة مسنة. لم يبق لها مما كانت عليه في السابق إلا أسنانها الدقيقة، مع واحد منها غلفته بالذهب للتجمل. وكانت تحتفظ بحداد صارم على زوجها الميت، بعد خمسين سنة من الحياة المشتركة، وقد زادت على ثياب الحداد قلنسوة سوداء لموت ابنها الوحيد الذي كان يساعدها في إساءاتها. لم يبق حيا فيها سوى عينيها الصافيتين والقاسيتين ومنهما عرفت أن طبيعتها لم تتغير.
    هناك في الحانوت مصباح شاحب، يتدلى من السقف، وليس في خزائن الدكان أي شيء للبيع، حتى أنه لا ينفع أحيانا كغطاء لتجارة يعرفها الجميع، ولكن لا أحد يعترف بها. كانت روسا كاباركاس تتحدث إلى زبون عندما دخلت على رؤوس أصابع قدمي. لست أدري إذا ما كانت لم تتعرف علي حقا، أم أنها تظاهرت بذلك للحفاظ على الشكليات. جلست على مقعد الانتظار ريثما تنتهي، وحاولت أن أعيد في ذاكرتي ترميم ما كانت عليه. فأكثر من مرتين عندما كنا كلانا كاملين، أخرجتني هي من الرهبة. أظن أنها قرأت أفكاري، لأنها التفتت إلي وتفحصتني بتمعن منذر بالخطر. ثم تنهدت بأسى: الزمن لا يؤثر عليك. فأردت مجاملتها: أما أنت فيؤثر عليك، ولكن إلى الأحسن. وقالت هي: بجد، حتى إن وجه الحصان الميت الذي لك يبدو وقد انبعث. فقلت بخبث: ربما لأنني بدلت المذود. وتحمست هي وقالت لي: كان لك، على ما أذكر، نبوت عبد تجديف. كيف حاله الآن؟ تملصت من السؤال بمهارة: الشيء الوحيد المختلف منذ لم نعد نلتقي هو أنني أشعر بحرقة في الشرج أحيانا. وكان تشخيصها فوريا: بسبب عدم الاستعمال. فقلت لها: لا أستعمله إلا لما صنعه الرب من أجله. ولكنه كان يحرقني حقا منذ زمن، ودائما عندما يكون القمر بدرا. بحثت روسا في درج منضدتها الذي مثل درج الخياط وفتحت علبة مرهم أخضر، له رائحة مرهم نبتة العطاس. قل للطفلة أن تدهنها لك بإصبعها هكذا، محركة سبابتها بقوة وبدون خجل. فأجبتها بأنني ما زلت بحمد الله قادرا على القيام بواجبي دون مراهم شعوذات شعبية. فقالت ساخرة: آي أيها المعلم، عذرا للحياة. وانتقلت إلى موضوعها.
    الطفلة في الغرفة منذ العاشرة، قالت لي؛ إنها جميلة، نظيفة، وحسنة التربية، ولكنها تكاد تموت خوفا، لأن صديقة لها هربت مع حمال سفن من غايرا، قد نزفت خلال ساعتين. وأقرت روسا: ولكن الأمر مفهوم، لأن رجال غايرا مشهورون بأنهم يجعلون البغلات تولول. وعادت إلى الإمساك بخيط حديثها: يا لها من مسكينة، وعليها فوق ذلك أن تعمل طوال النهار في تثبيت الأزرار في أحد المصانع. لم تبد لي خياطة الأزرار عملا شاقا. فردت هي: هذا ما يظنه الرجال، ولكنه أسوأ من العمل في تكسير الأحجار. واعترفت لي كذلك بأنها أعطت الطفلة مشروبا من البرومور مع الفاليريانا، وأنها نائمة الآن. خشيت أن تكون شفقتها مجرد حيلة أخرى لزيادة السعر، ولكن لا، قالت هي، فكلمتي من ذهب. بقواعد ثابتة: كل شيء يدفع على حدة، بنقود نظيفة، ومقدما. وهذا ما كان.
    لحقت بها عبر الفناء مشفقا على ذبول بشرتها، وسوء مشيتها بساقيها المتورمتين وراء جورب القطن الطبي. كان لون القمر المكتمل يقترب من منتصف السماء، وتبدو الدنيا كما لو أنها غارقة في ماء أخضر. كان هناك بالقرب من الدكان سقيفة من سعف النخل، لحفلات الإدارة العامة، مع كثير من الكراسي الجلدية التي بلا مساند، وأراجيح النوم المعلقة إلى الدعائم. وفي الفناء الخلفي، حيث تبدأ غابة الأشجار المثمرة، هناك رواق يضم ست غرف نوم، مبنية من اللبن غير المجصص، بنوافذ مزودة بشباك إضافية للحماية من البعوض. الغرفة الوحيدة المشغولة كانت نصف مضاءة، وتونيا الزنجية تغني من المذياع أغنية غرامية خبيثة. استنشقت روسا كاباركاس الهواء وقالت: ألحان البوليرو هي الحياة. وكنت متفقا معها في الرأي، ولكنني لم أتجرأ على كتابة ذلك حتى اليوم. دفعت الباب، دخلت هنيهة، ثم عادت للخروج وقالت: لا تزال نائمة. تحسن صنعا بتركها تستريح كل الوقت الذي يتطلبه جسدها، فليلُكَ أطول من ليله. كنت مبهورا، وسألتها: ما الذي علي عمله برأيك؟ فقالت هي بوداعة في غير محلها: أنت تعرف ما عليك عمله، فلسبب ما أنت عالم. دارت على عقبيها، وتركتني وحيداً مع الرعب.
    لم يكن ثمة مفر. دخلت إلى الحجرة بقلب مزعزع، ورأيت الطفلة النائمة عارية وعزلاء على سرير الإيجار الفسيح، مثلما ولدتها أمها. ترقد على جانبها، ووجهها إلى الباب، مضاء من البهو، بنور كثيف لا يغفل تفصيلا منها، جلست أتأملها من حافة السرير، بافتتان حواسي الخمس. كانت سمراء ودافئة. وكانوا قد أخضعوها لعملية تنظيف وتجميل لم تهمل حتى زغب عانتها المستجد. وقد جعدوا شعرها، وكان على أظفار يديها وقدميها طلاء ذو لون طبيعي، أما بشرتها التي بلون دبس القصب فتبدو خشنة وفي حالة مزرية. النهدان حديثا البروز لا يزالان يبدوان كما لو أنهما لطفل ذكر، ولكن يبدو أنهما يتحفزان بقوة سرية توشك أن تتفجر. أفضل ما في جسدها هما القدمان الكبيرتان اللتان تمشيان بخطوات متكتمة، بأصابعهما الطويلة والحسية كما في أيد أخرى. كانت مبللة بعرق فسفوري لامع بالرغم من المروحة، وكانت وطأة الحر الذي لا يطاق تزداد مع تقدم الليل. كان من المستحيل تخيل كيف هو الوجه المطلي بالأصبغة وبطبقة كثيفة من بودرة مسحوق الرز، مع لطختين حمراوين على الخدين، وكانت الرموش الاصطناعية والحاجبان والجفنان كما لو أنها مدخّنة بهباب أسود، والشفتان مضخمتان بطلاء لامع من الشوكلاتة. ولكن لم تستطع الخرق ولا الأصبغة أن تخفي شخصيتها: الأنف المتكبر، الحاجبين المتصلين، الشفتين الممتلئتين. وفكرت: ثور مصارعة رقيق.
    في الساعة الحادية عشرة ذهبت للقيام بإجراءات روتينية في الحمام، حيث كانت ملابسها كفقيرة مطوية على كرسي بعناية غنية، فستان مطبّع بروسوم فراشات، سروال داخلي أصفر، وصندل من القنب، وكان هناك فوق الملابس سوار رخيص، وقلادة رفيعة جدا، مع ميدالية لرسم العذراء، وعلى رف المغسلة محفظة يدوية وقلم شفاهن وعلبة أصبغة تجميل، ومفتاح وقطعة نقدية صغيرة. كل شيء بالغ الرخص، ومستهلك من كثرة الاستعمال، إلى حد لم أستطع تصور من هو أفقر منها.
    خلعت ملابسي ووضعت كل قطعة منه بأفضل ما استطعت على المشجب كيلا أفسد حرير القميص وكيّ الكتّان، تبولت في المرحاض ذي السلسلة جالسا، مثلما علمتني فلورينا دي ديوس منذ طفولتي، كيلا ألوّث حوافّ مقعد المرحاض، كان بولي لا يزال يندفع، ولندع التواضع جانبا، في دفقة فورية ومتواصلة مثل مهر جموح، وقبل أن أخرج نظرت إلى مرآة المغسلة. الحصان الذي نظر إلي من الجانب الآخر، لم يكن ميتا وإنما كئيبا، وله غبب تحت ذقنه كغبب البابا، وجفنان منتفخان، وناصية الموسيقي التي كانت له قد تهدلت. فقلت له:
    - خراء، ماذا يمكنني أن أفعل إذا كنت لا تحبني.
    وفي محاولة مني لعدم إيقاظها، جلست عاريا على السرير، بنظرات اعتادت على خدع الضوء الأحمر، وتفحصتها شبرا شبرا. مررت بطرف سبابتي انزلاقا على قفا عنقها المبلل، فارتعشت كلها من الداخل، مثل وتر قيثارة، وانقلبت باتجاهي بهمهمة، وأحاطتني بجو أنفاسها الحامضة. ضغطت أنفها بين إبهامي وسبابتي، فاهتزت، وأبعدت رأسها، وأولتني ظهرها دون أن تستيقظ. حاولت مباعدة ساقيها بركبتي، في إغواء مفاجئ. فقاومت ذلك في المحاولتين الأوليين، بفخذيها المتصلبين. غنيت في أذنها: (سرير ديلغادينا، محاط بالملائكة) فاسترخت قليلا. صعد تيار دافئ في عروقي، واستيقظ حيواني البطيء المتقاعد من سباته الطويل.
    ديلغادينا، يا روحي، توسلت إليها متلهفا، ديلغادينا. فأطلقت أنة كئيبة، وابتعدت عن فخذي. أدارت لي ظهرها. وتكورت على نفسها مثل حلزون في قوقعته. لا بد أن مشروب الفاليريانا كان فعالا معي كفعاليته معها، لأن شيئا لم يحدث لها ولا لأحد. ولكن ذلك لم يهمني. تساءلت عن الفائدة من إيقاظها وأنا ذليل وحزين مثلما كنت، وبارد مثل أرنب صغير مذعور.
    دوّى عندئذ، واضحا ومؤكدا، قرع نواقيس الثانية عشرة ليلا، وبدأ فجر التاسع والعشرين من آب، يوم استشهاد القديس يوحنا المعمدان. أحد كان يبكي صارخا في الشارع. وليس هناك من يهتم به. صليت من أجله، إذا ما كان ذلك ينفعه، وكذلك من أجلي، في شكر للرب على المنافع التي تلقيتها: (لا يخدعن أحد نفسه، لا ، مفكرا في أن ما ينتظره سيدوم أكثر مما رآه). تأوهت الطفلة في حلمها، فصليت من أجلها أيضا: (فكل شيء سينقضي بهذه الطريقة). ثم أطفأت بعد ذلك المذياع والنور، كي أنام.
    استيقظت فجرا دون أن أدري أين أنا. كانت الطفلة لا تزال نائمة، مولية إلي ظهرها، في وضع جنيني. راودني إحساس مبهم بأنني سمعتها تنهض في الظلام، وبأنني سمعت ماء سيفون الحمام، ولكن يمكن لذلك أن يكون حلما. كان الأمر جديدا بالنسبة لي. فأنا أجهل نزوات الإغواء. وكنت أختار عروساتي لليلة واحدة بالمصادفة، وباهتمام بالسعر أكثر من المفاتن. ونمارس دون حب، ونحن بنصف ملابسنا في معظم الأحيان. ودوما في الظلام. كي يتخيل كل منا الآخر أفضل مما هو عليه. في تلك الليلة اكتشفت المتعة التي لا تصدق. في تأمل جسد امرأة نائمة. دون تسرع الشهوة أو عوائق الحياء.
    نهضت في الخامسة. قلقا لأن مقالتي ليوم الأحد، يجب أن تكون على منضدة التحرير قبل الساعة الثانية عشرة. قمت بتغوطي في موعده الدقيق، وكانت حرقة القمر البدر لا تزال موجودة، وعندما شددت سلسلة الماء، أحسست أن أحقاد ماضيّ قد ذهبت في المجاري. وحين رجعت منتعشا ومرتديا ملابسي إلى غرفة النوم، كانت الطفلة تنام على ظهرها، على ضوء الفجر المهادن، معترضة السرير من جانب إلى آخر، وذراعاها مفتوحان في صليب وسيدة قلت لها: فليحمك الرب. وكل النقود المتبقية معي. نقودها ونقودي. وضعتها على الوسادة، وودعتها إلى الأبد، بقبلة على جبينها. كان البيت مثل كل المواخير عند الفجر، أقرب ما يكون من الفردوس. خرجت من البوابة المطلة على البستان، كيلا ألتقي بأحد. وتحت شمس الشارع اللاسعة، بدأت أشعر بوطأة سنواتي التسعين، وأعد دقيقة فدقيقة، دقائق الليالي التي تفصلني عن الموت.
    يتبع........
    سلموز
    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله السبت فبراير 23, 2008 12:17 pm

    [size=18]الفصل الثاني
    أكتب هذه الذكريات، في القليل المتبقي من المكتبة التي كانت لأبوي، ورفوفها على وشك أن تنهار بسبب العث. وأنا في نهاية المطاف، من أجل ما تبقى علي عمله في هذه الدنيا. تكفيني معاجمي التي من كل نوع، مع المجموعتين الأوليين من (المراحل الوطنية) لدون بينيتو غالدوس، ورواية (الجبل السحري) التي علمتني فهم تقلب أجواء أمي بسبب السل.
    خلافا لقطع الأثاث الأخرى، وخلافا لي أنا بالذات، تبدو المنضدة التي أكتب عليها في أحسن صحة مع مرور الزمن، لأن من صنعها من أخشاب ثمينة هو جدي لأبي، وكان نجار سفن. وحتى عندما لا يكون علي أن أكتب فإنني أهيئها كل صباح بالصرامة المتكاسلة التي تسببت في فقداني غراميات كثيرة.
    ولديّ في متناول يدي، كتبي المتواطئة: مجلديْ (المعجم المصور الأول) للأكاديمية الملكية، طبعة 1903م: و(كنز اللغة القشتالية أو الإسبانية) لدون سيبستيان دي كوفاروبياسح و(نحو دون أندرييس بيو). إذا ما اعترضتني شكوك في مدلول لفظة ما، بالصرامة اللازمة. و(المعجم الأيديولوجي) المستجد لدون خوليو كاساريس، ولاسيما بسبب مترادفاته وأضداده: و(مفردات اللغة الإيطالية) لنيكولا زينغاريلي، ليكون عونا لي في لغة أمي التي تعلمتها من المهد، ومعجم اللغة اللاتينية، لأنها أم لغتين أخريين أعتبرهما لغة مولدي.
    وإلى يسار المنضدة أحتفظ على الدوام برزم الورق الخمس. ذات الحجم الرسمي، من أجل كتابة عمودي لأيام الآحاد، وقرن مسحوق تنشيف الرسائل الذي أفضله على وسائد ورق النشاف المحدثة. وإلى اليمين هناك دواة حبر وحمالة رياش كتابة من خشب البالسو الخفيف، والريشة الذهبية، فأنا ما زلت أكتب بيدي، بالخط الرومنطيقي الذي علمتني إياه فلورينا دي ديوس، كيلا أعتاد على الكتابة بالخط الرسمي لزوجها الذي كان كاتبا بالعدل، ومحاسبا محلفا. حتى نفسه الأخير. منذ زمن فرض علينا في الجريدة أن نكتب على الآلة الكاتبة، من أجل تقدير حسابي أفضل لحجم النص في رصاص اللينوتيب. ودقة أكبر في الإخراج، ولكنني لم أتفق قط مع هذه العادة السيئة. واصلت الكتابة يدويا، واستنساخ ما أكتبه على الآلة الكاتبة، بنقر دجاجة شاق، بفضل الامتياز المزعج، باعتباري أقدم الموظفين. وأنا اليوم، متقاعد ولكن غير مهزوم، أنعم بالامتياز المقدس بالكتابة في البيت، والهاتف مفصول كيلا يزعجني أحد، ودون رقيب يرصد ما أكتبه من فوق كتفي.
    أعيش بلا كلاب ولا طيور ولا خدم، باستثناء داميانا الوفية التي أخرجتني من مآزق لا تخطر على بال، وهي تواصل المجيء مرة كل أسبوع، لترى إذا كان ثمة ما يجب عمله، حتى وهي في حالتها الراهنة، ضعيفة البصر والعقل. لقد توسلت إليّ أمي، وهي على فراش الموت أن أتزوج وأنا شاب من امرأة بيضاء، وأن ننجب ثلاثة أبناء على الأقل، بينهم طفلة تحمل اسمها الذي كان اسم أمها وجدتها. كنت حريصا على الاستجابة لتوسلها، إنما كانت لدي فكرة شديدة المرونة عن الشباب، لم يبد لي معها قط أن الوقت قد تأخر. حتى ظهيرة يوم بالغ القيظ، أخطأت فيه بباب البيت الذي كان يملكه آل بالوماريس دي كاسترو في برادومار، وفاجأت الابنة الصغرى خيمنتا أورتيث عارية وهي تنام القيلولة في الغرفة المجاورة. كانت مستلقية وظهرها إلى الباب، والتفتت لتراني من فوق كتفها، بحركة سريعة جدا، لم تتح لي الوقت للهرب. آي اعذرني، توصلت إلى قول ذلك وروحي في فمي. فابتسمت هي واستدارت نحوي بحركة غزال، وأظهرت لي جسدها كاملا. بدت الحجرة كلها مترعة بحميميتها، لم تكن عارية تماما، فقد كانت على أذنها زهرة سامة، بتلاتها مائلة إلى اللون البرتقالي مثل (أولمبيا) مانيه، وكانت تضع أيضا سوارا ذهبيا في معصمها الأيمن، وعقد لؤلؤ حباته دقيقة. لم أتخيل قط أنه يمكن لي رؤية شيء أشد إثارة للارتباك فيما تبقى لي من الحياة، ويمكنني اليوم أن أؤكد أنني كنت على صواب.
    أغلقت دفعة واحدة، خجلا من بلادتي، ومصمما على نسيانها. لكن خيمينا أورتيث حالت دون ذلك، فقد راحت ترسل إلي رسائل شفهية مع أصدقاء مشتركين وبطاقات غرام استفزازية وتهديدات قاسية، فيما هي تنشر الإشاعة بأننا نحب أحدنا الآخر، دون أن نكون قد تبادلنا كلمة واحدة. كانت المقاومة مستحيلة، فقد كانت لها عينا قطة متوحشة، وجسد بالغ الإثارة، بالملابس ومن دونها، وشعر غزير من ذهب هائج. زهوها كامرأة يدفعني إلى البكاء غيظا على الوسادة. كنت أعرف أن ذاك لن يصل أبدا لأن يكون حبا، لكن الغواية الشيطانية التي مارستها علي كانت شديدة الإحراق، أحاول تهدئتها مع أي غانية خضراء العينين أصادفها في طريقي، لم أستطع قط إخماد نار ذكراها في سرير برادومار، وهكذا سلمتها أسلحتي بطلب يديها رسميا، وبتبادل خواتم والإعلان عن حفلة زفاف كبرى قبل عيد العنصرة.
    انفجر الخبر في الحي الصيني بقوة أكبر مما في الأندية الاجتماعية. في البدء بسخرية ولكنه تحول إلى معارضة أكيدة لبعض الأكاديميات المحترفات اللواتي يرين أن الزواج حالة مضحكة أكثر منها مقدسة. تقيدت خطوبتي بكل طقوس الأخلاق المسيحية، على شرفة أزهار الأوركيدا الأمازونية والسراخس المعلقة في بيت خطيبتي، كنت أصل إلى هناك في الساعة السابعة مساءً، مرتديا بذلة كاملة من الكتان الأبيض، وحاملا أي هدية من مشغولات الخرز التقليدية أو الشوكلاتة السويسرية. فنتبادل الحديث، نصفه بالرموز ونصفه بجد، حتى الساعة العاشرة، تحت حراسة أرخينديا التي كانت تغفو مع أول طرفة عين، مثل الرقيبات ذوات القلنسوات في روايات ذلك العهد.
    كانت خيمنتا تزداد شراهة كلما صار تعارفنا أفضل، فهي تتخلص من حمالات الصدر والتنانير كلما ازدادت وطأة حر حزيران، وكان من السهل تصور القدرة الهدامة الطاغية التي تمتلكها في العتمة. بعد شهرين من الخطوبة، لم يعد لدينا ما نتحدث عنه، وطرحت هي موضوع الأبناء، دون أن تقول مباشرة، وإنما بحياكة أخفاف صوف خام بالسنارة، لأطفال حديثي الولادة. وتعلمت أنا الخطيب الشهم الحياكة معها، وهكذا صارت الساعات غير المجدية المتبقية لحفل الزفاف، تمضي وأنا أحوك الأخفاف الزرقاء للمواليد الذكور، وهي تحوك الأخفاف الوردية للإناث، لنرى من منا سيصيب، إلى أن صارت الأخفاف تكفي لخمسين ابنا. وقبل أن تدق نواقيس الساعة العاشرة كنت أركب عربة تجرها أحصنة، وأذهب إلى الحي الصيني لأعيش ليلتي في سلام الرب.
    كانت حفلات وداع العزوبية الصاخبة التي يقيمونها لي في الحي الصيني تمضي في طريق معاكس لسهرات النادي الاجتماعي ثقيلة الوطأة والمضجرة. وهو تناقض أفادني في أن أعرف أي العالمين هو عالمي الحقيقي، وقد أوهمت نفسي بأنهما عالماي على السواء، ولكن كلا منهما في ساعاته المحددة. فمن أي واحد منهما، كنت أرى الآخر يبتعد بالزفرات المؤثرة التي تتباعد بها سفينتان، إحداهما عن الأخرى، في عرض البحر. الحفلة الراقصة عشية يوم زفافي، في ماخور (إلبودير دي ديوس) تضمن طقسا أخيرا لا يمكن له أن يخطر إلا لخوري غاليسي متورط في وحول الشهوة، ألبس جميع العاملات الإناث طرحات زفاف وأكاليل زهر برتقال، كيف يتزوجن جميعهن مني، في طقس ديني جماعي. كانت ليلة تدنيس عظيمة للمقدسات، أقسمت فيها اثنتان وعشرون منهن على الحب والطاعة، وأجبتهن بقسم الوفاء والإعالة إلى ما بعد القبر.
    لم أستطع النوم بسبب نذير أمر لا خلاص منه. ومنذ الفجر بدأت أعد مرور الساعات على دقات نواقيس الكاتدرائية، حتى دقات الناقوس السبع المرهوبة التي يتوجب علي عندها أن أكون في الكنيسة. بدأ جرس الهاتف بالرنين في الثامنة؛ طويلا لجوجا بلا لين، طوال أكثر من ساعة. ولم أكتف بعدم الرد عليه وحسب، وإنما بعدم التنفس أيضا. وقبل العاشرة بقليل طرقوا علي الباب، بقبضة اليد في البدء، ثم بصرخات أصوات معروفة ومستنكرة. خشيت أن يحطموه اعتقادا منهم بحدوث مكروه خطير، ولكن في حوالي الحادية عشرة ساد البيت صمت متوتر كالذي يلي الكوارث الكبرى. عندئذ بكيت من أجلها ومن أجلي، وصليت من أعماق قلبي متوسلا ألا ألتقي بها في حياتي، مطلقا وإلى الأبد. ولا بد أن قديسا ما سمعني نصف استماع، لأن خيمينا أورتيث غادرت البلاد، في تلك الليلة بالذات، ولم ترجع إلا بعد مرور عشرين عاما، وكانت قد تزوجت وصار لها سبعة أبناء، كان يمكن لهم أن يكونوا أبنائي.
    تكلفت جهدا في الحفاظ على موقعي وعمودي الأسبوعي في (الدياريو دي لا باث)، بعد تلك الإساءة الاجتماعية. ولكنها لم تكن السبب في إبعاد عمودي الصحفي إلى الصفحة الحادية عشرة، وإنما السبب هو الاندفاع الأهوج الذي دخل به القرن العشرون. فقد تحول التقدم إلى أسطورة المدينة. كل شيء تبدل. طارت الطائرات، وألقى رجل مبادرات كيس رسائل من طائرة "جنكر" مخترعا بذلك البريد الجوي.
    الشيء الوحيد الذي بقي على حاله هو أعمدتي في الصحيفة. انقضت الأجيال الجديدة عليها في هجمات مضادة، مثلما تنقض على مومياء من الماضي يجب تدميرها؛ ولكنني حافظت على مقالاتي، بالنبرة نفسها، دون تنازل، في مواجهة رياح التجديد. صممت أذني عن كل شيء. وكانت مقالاتي قد أكملت أربعين سنة، لكن المحررين الشبان كانوا يسمونها (مودارا النغل). استدعاني مدير ذلك الزمن إلى مكتبه، ليطلب مني أن أجاري نبرة الاتجاهات الجديدة. وقال لي بلهجة وقورة، كما لو أنه اخترع ذلك للتو: العالم يتقدم. فقلت له: أجل إنه يتقدم ولكن بالدوران حول الشمس. أبقى على عمودي ألأحدي، لأنه لم يجد مصحح برقيات آخر. وأنا أعرف اليوم أنني كنت على حق، وأعرف السبب. فمراهقو جيلي النهمون للحياة نسوا أوهام المستقبل روحا وجسدا، إلى أن علمهم الواقع بأن المستقبل ليس كما يحلمون به، واكتشفوا الحنين.
    وهناك كانت أعمدتي ألأحدية مثل لقية أثرية بين أنقاض الماضي، وانتبهوا إلى أنها ليست للشيوخ فقط، وإنما هي كذلك للشباب الذين لم يخافوا أن يشيخوا. وعندئذ رجع عمودي إلى صفحة الافتتاحيات، وحتى الصفحة الأولى في بعض المناسبات الخاصة.
    كل من يسألني أجيبه دوما بالحقيقة: العاهرات لم يتحن لي الوقت لأتزوج. ومع ذلك يجب أن أعترف بأنني لم أجد هذا التفسير قط ، حتى يوم إكمال سنواتي التسعين، عندما خرجت من بيت روسا كاباركاس، مصمما على عدم العودة مطلقا إلى استفزاز القدر. كنت أشعر أنني شخص آخر. انقلب مزاجي من جماعات الناس الذين رأيتهم متكئين على السور الحديدي المحيط بالحديقة العامة. وجدت داميانا مقرفصة في الصالة تمسح الأرضية فأثار في شباب فخذيها وهي في هذه السن، رعشة أزمنة أخرى. لا بد أنها أحست بذلك، لأنها غطت نفسها بالتنورة . ولم أستطع كبح الإغراء بسؤالها: أخبريني يا داميانا: ما الذي تتذكرينه؟ فقالت: لم أكن أتذكر شيئا، ولكن سؤالك ذكرني. أحسست بضيق في الصدر. قلت لها: لم أعرف الحب قط. فردت هي على الفور: أنا بلى، عرفته. وواصلت قائلة . ودون أن تتوقف عن عملها: بكيت اثنتين وعشرين سنة من أجلك.
    أحسست بقلبي يطفر من مكانه. فقلت لها، باحثا عن مخرج مشرف: كان يمكن لنا أن نكون ثنائيا جيدا. فقالت: إنك تسيء إلي بقول هذا الآن، لأنه لم يعد ينفعني ولو كعزاء. وبينما هي تغادر البيت، قالت لي بطريقة أكثر طبيعية: أنت لن تصدقني ولكنني ما زلت عذراء، والحمد لله.
    اكتشفت بعد قليل أنها تركت ورودا حمراء في كل أنحاء البيت، وبطاقة على الوسادة: (أتمنى لك بلوغ المئة). بهذا المذاق الكريه جلست لمواصلة كتابة عمودي الذي لم أكمله في اليوم السابق. أنهيته في نفس واحد، وخلال أقل من ساعتين، وكان علي أن ألوي عنق البجعة لأخرجها من أحشائي دون أن يظهر علي البكاء. وبنفحة إلهام متأخرة قررت أن أنهي هذا المقال بوضع حد سعيد، لحياة صحفية طويلة وجديرة دون الخضوع لشرط موتي البغيض.
    كنت أنوي ترك المقال في استعلامات الجريدة، والعودة إلى البيت. ولكنني لم أستطع. فالعاملون كلهم كانوا بانتظاري للاحتفال بعيد ميلادي. كانت هناك ورشة ترميم في البناء، مع سقالات وأنقاض باردة في كل مكان، ولكنهم أوقفوا أعمال البناء من أجل الاحتفال. وعلى منضدة نجار كانت مشروبات الأنخاب والهدايا الملفوفة بورق مبهرج. وبينما أنا مشوش بوميض آلات التصوير، استجبت لكل ما طلب من صور للذكرى.
    أسعدني أن أجد هناك صحفيين من الإذاعة، ومن جرائد المدينة الأخرى. من جريدة (لابرنسا) الصباحية المحافظة، وجريدة (الهيرالدو) الصباحية الليبرالية، و(الناثيونال) المسائية شديدة التأثير، التي تحاول التخفيف من توترات النظام العام بروايات عاطفية مسلسلة. لم يكن غريبا أن يكونوا معا، فضمن روح المدينة كان هناك تقبل حسن للحفاظ على سلامة الصدقات بين الجنود، بينما الماريشات يخوضون حروب الافتتاحيات.
    وكان هناك أيضا، خارج أوقات دوامه، الرقيب الرسمي دون خيرونيمو أورتيغا، الذي كنا نسميه رجل الساعة التاسعة البغيض، لأنه يصل بدقة في هذه الساعة من الليل، بقلمه الدموي كعاهل قوطي. ويبقى هناك إلى أن يتأكد من عدم وجود أي حرف لم ينل جزاءه من طبعة الصباح. كان لديه نفور شخصي تجاهي، لعجرفتي النحوية، أو لأنني أستخدم كلمات إيطالية، عندما تبدو لي أكثر قدرة على التعبير من الكلمة القشتالية، دون أن أضمنها في أقواس أو أكتبها بخط مائل، وهو استخدام يجب أن يكون مشروعا بين لغات من أصل واحد. وبعد أن عانينا منه أربع سنوات انتهينا إلى تقبله، باعتباره ضميرنا الخبيث.
    حملت السكرتيرات إلى القاعة قالب حلوى بودين، عليه تسعون شمعة مشتعلة، واجهتني لأول مرة بعدد سنوات حياتي. وكان لا بد لي من ابتلاع الدموع، عندما غنوا النخب، وتذكرت الطفلة دون أي مبرر. لم تكن خبطة حقدن وإنما شفقة متأخرة على المخلوقات التي لم أكن آمل بالعودة إلى تذكرها. وريثما انقضى مرور الملاك، كان أحدهم قد وضع في يدي سكينا من أجل تقطيع الحلوى. ولم يتجرأ أحد على ارتجال خطبة، خوفا من السخرية. وكنت أفضل الموت على الرد على مثل تلك الخطب. ولإنهاء الحفلة عمد رئيس التحرير الذي لم أشعر نحوه قط بتعاطف كبير، إلى إعادتنا إلى الواقع الفظ. فقد قال: والآن، أيها التسعيني اللامع، أين هي مقالتك؟
    الحقيقة أنني كنت أشعر بها تحرقني، طوال ما بعد الظهر، مثل جمرة في جيبي، غير أن التأثر كان قد تغلغل عميقا، على حد لم يطاوعني معه قلبي على إفساد الحفلة باستقالتي. فقلت: إنها غير موجودة هذه المرة. استاء رئيس التحرير لهذا الخطأ الذي لم يكن تصوره ممكنا منذ القرن السابق. فقلت له: تفهم الأمر مرة واحدة، لقد أمضيت ليلة شاقة، واستيقظت مشوشا. فقال هو بمزاجه الذي كالخلب: كان عليك إذن أن تكتب هذا، فالقراء يحبون أن يعرفوا من صاحب العلاقة مباشرة كيف هي الحياة في التسعين. فتوسطت إحدى السكرتيرات، ربما هناك سر لذيذ، قالت ذلك ونظرت إلي بخبث: أم أن الأمر ليس كذلك؟ أحرقت وجهي هبة ملتهبة، وفكرت: يا للعنة، كم هو جاحد الحياء. فأشارت أخرى، مشرقة، إلي بإصبعها: يا للروعة! ما زالت لديه أناقة الإحساس بالحياء. فاستثارت في وقاحتها حياء آخر فوق الحياء. وقالت السكرتيرة الأولى: لا بد أنها كانت ليلة انقضاض، أشعر بالحسد! وقبلتني قبلة ظلت مرسومة على وجهي. ازداد المصورون ضراوة. وبإحساس بالاختناق سلمت المقالة إلى رئيس التحرير وقلت له إن ما قلته سابقا كان مزاحا، وهاهي ذي، وهربت في جلبة نوبة التصفيق الأخيرة، كيلا أكون حاضرا عندما يكتشفون أنها رسالة استقالتي، بعد نصف قرن من عبودية التجديف.
    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله السبت فبراير 23, 2008 12:19 pm

    ستمر الجزع طوال تلك الليلة، فيما أنا أفتح الهدايا في بيتي. عمال اللينوتيب جانبوا الصواب بإهدائي آلة صنع قهوة كهربائية، مثل الآلات الثلاث التي قدمت لي في أعياد ميلاد سابقة. وقدم لي الطباعون تفويضا باستلام قط أنغورا من الحظيرة البلدية للحيوانات. وقدمت لي الإدارة زيادة نقاط رمزية. وأهدت إلي السكرتيرات ثلاثة سراويل داخلية حريرية، عليها آثار قبلات مطبوعة، وبطاقة يعرضن فيها علي خلع السراويل عني. خطر لي إن إحدى مفاتن الشيخوخة هي الاستفزازات التي تسمح الصديقات الشابات لأنفسهن بها لأنهن يعتقدن أننا خارج الخدمة.
    لم أعرف قط من الذي أرسل لي اسطوانة تضم افتتاحيات شوبان الأربع والعشرين، بتوزيع ستيفان اسكيناس. وأهدى إلي معظم المحررين كتبا رائجة. لم أكن قد انتهيت من فتح الهدايا، عندما اتصلت بي روسا كاباركاس هاتفيا، وبادرتني بالسؤال الذي لا أريد سماعه: ما الذي جرى لك مع الطفلة؟ لا شيء، قلت دون أن أفكر بالأمر. فقالت روسا كاباركاس: أيبدو لك لا شيء أنك لم تجرب مجرد إيقاظها؟ لا يمكن لامرأة أن تتسامح قط مع رجل يزدري تدشينها. فتعللت بأنه لا يمكن للطفلة أن تكون مستنفدة إلى ذلك الحد لمجرد أنها تركب أزرارا، وربما كانت تتصنع النوم خوفا من خطورة اللحظة. فقالت روسا: الأمر الوحيد الخطير هو أنها تظن حقا أنك لم تعد تنفع، ولا أحب أن تذيع عنك ذلك في الرياح الأربع.
    لم أمنحها متعة مفاجأتي. وقلت لها: حتى لو كان الأمر كذلك فإن حالتها يرثى لها، ولا يمكن الاعتماد عليها، سواء أكانت نائمة أم مستيقظة.. إنها لحم مستشفى. أخفضت روسا كاباركاس من نبرتها: المشكلة في التسرع الذي تم به الاتفاق، ولكن هناك علاج، ولسوف ترى. تعهدت لي بأن تجعل الطفلة تعترف، وأن تجبرها إذا كان الأمر كما أقول على إعادة النقود، ما رأيك؟ فقلت لها: دعي الأمر عند هذا الحد، فهنا لم يحدث شيء، ولكنه أفادني بالمقابل كدليل على عدم صلاحيتي لهذه الأمور. وبهذا المعنى تكون الطفلة على حق: فانا لم أعد أنفع. أغلقت الهاتف، مفعما بإحساس بالتحرر لم أعرفه في حياتي، وبمنجى، أخيرا، من مهانة أبقتني تحت نيرها منذ كنت في الثالثة عشرة من عمري.
    في الساعة السابعة مساء كنت ضيف شرف على كونشيرتو جاك ثيبول وألفرد كورتو في قاعة الفنون الجميلة، في عزف مجيد لسوناتا الكمان والبيانو لسيسر فرانك، وقد أخذني المعلم بيدرو بيافا، موسيقينا العظيم، بما يشبه الجرجرة، إلى الكواليس، ليقدمني إلى العازفين. شعرت بانبهار شديد، حتى أنني هنأتهما على سوناتا لشومان لم يعزفاها، فصحح لي أحدهم خطأي أمام الملأ، وبصورة خبيثة. الانطباع بأنني خلطت بجهل بسيط بين السوناتتين، ظل مغروسا في الجو المحلي، وزاد من الحرج أنني حاولت ترقيع الأمر، بتوضيح أرعن، في تعليقي النقدي على الكونشيرتو يوم الأحد التالي.
    أحسست لأول مرة في حياتي الطويلة بأنني قادر على قتل أحدهم. رجعت إلى البيت معذبا بهذا الشيطان الصغير الذي يهمس في الأذن بالإجابات المفحمة التي لم ترد إلى ذهني في الوقت المناسب، ولم تخفف القراءة ولا الموسيقى من غضبي. لحسن الحظ أن روسا كاباركاس أخرجتني من ذلك الهذيان بصرخة أطلقتها عبر الهاتف: إنني سعيدة بالجريدة لأنني لم أكن أظن انك أكملت التسعين وإنما المئة. فأجبتها مغتاظا: أبمثل هذا التهالك رأيتِني؟ فقالت هي: بالعكس، فما فاجأني هي رؤيتك في أحسن حال. ويا لروعة أنك لست من المسنين المتصابين الذين يزيدون عمرهم، ليراهم الآخرون في حالة حسنة. ثم غيرت الموضوع دون تمهيد: لقد أعددت لك هديتك. فاجأتني بذلك حقا: وما هي؟ فقالت: الطفلة.
    لم أتريث لحظة واحدة للتفكير، وقلت: شكرا، فهذا الأمر انتهى. لكنها واصلت الكلام، متجاوزة ما قلته: سأرسلها إليك في بيتك، ملفوفة بورق صيني، ومسلوقة مع عود صندل على البخار، وكل هذا مجانا. بقيت متشبثا بموقفي، وانهمكت هي في تفسير عويص، بدا لي مخلصا. قالت إن الطفلة كانت في حالة بالغة السوء في يوم الجمعة ذاك، لأنها أنجزت خياطة مئتي زر بالإبرة والكشتبان. وصحيح أنها كانت خائفة من الاغتصاب الدموي، ولكنها دربت الآن للتضحية. وأنها استيقظت في ليلتي معها، لتذهب إلى الحمام، ووجدتني أغط في نوم عميق، فأشفقت أن توقظني، وعندما استيقظت ثانية في الصباح كنت قد غادرت. غضبت لما بدا لي أنه كذب بلا طائل. فواصلت روسا كاباركاس: حسن، حتى لو كان الأمر كذلك فإن الطفلة نادمة. يا لها من مسكينة. إنها هنا أمامي. أتريد التكلم معها؟ فقلت لها: لا، بالله عليك.
    كنت قد بدأت الكتابة، عندما اتصلت سكرتيرة الجريدة. وكانت الرسالة هي أن المدير يريد رؤيتي في اليوم التالي، الساعة الحادية عشرة صباحا. ذهبت في الموعد الدقيق. كانت جلبة ترميم البناء لا تحتمل، فالهواء مخلخل بضربات مطارق وغبار أسمنتي، ورائحة قطران، ولكن المحررين كانوا قد اعتادوا على التفكير وسط روتين الفوضى. أما مكاتب المدير بالمقابل، فكانت باردة وهادئة، إنها في بلاد مثالية ليست بلادنا.
    نهض ماركو توليو الثالث واقفا بهيئته المراهقة حين رآني أدخل، ودون أن يقطع محادثة هاتفية، شد على يدي من فوق منضدة المكتب، وأومأ إلي بأن أجلس. توصلت إلى التفكير في أنه لا وجود لأحد في الجانب الآخر من الخط، وأنه يقوم بهذه المهزلة لإبهاري، ولكنني سرعان ما تبينت أنه يتكلم مع المحافظ، وكان حوارا صعبا في الحقيقة، بين عدوين حميمين. وأظن أنه فوق ذلك، كان يسعى إلى أن يبدو حازما أمامي، مع أنه ظل واقفا وهو يتكلم إلى السلطة.
    كانت تبدو عليه رذيلة العناية بحسن هندامه. فقد أكمل التاسعة والعشرين من عمره، ولديه أربع لغات، وثلاث شهادات خبرة دولية، على عكس الرئيس الأول مدى الحياة، جده لأبيه، الذي صار صحفيا تجريبيا بعد أن جمع ثروة من تجارة الرقيق الأبيض. إنه لطيف في التعامل، مشهور بأنه أنيق وهادئ، والصوت الوحيد الذي يعرض مهابته للخطر هي نبرة زائفة في صوته. يرتدي سترة رياضية على ياقتها زهرة أوركيدا حية، وكل شيء فيه يوحي بأنه جزء من كيانه الطبيعي، ولكن ليس فيه ما هو مخلوق لأجواء الشارع، وإنما لربيع مكاتبه وحسب. وأنا الذي أنفقت قرابة الساعتين لكي أرتدي ملابسي أحسست بخزي الفقر وتفاقمت حدة غضبي.
    ومع ذلك فقد كان السم القاتل في صورة بانورامية جماعية للعاملين في الجريدة، ملتقطة في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها، مشارا فيها بصليب فوق رؤوس من ماتوا. كنت أنا الثالث إلى اليمين في الصورة، بقبعة قش مسطحة الحواف وربطة عنق ذات عقد كبيرة، مع لؤلؤة في المشبك، وشاربي الأول الشبيه بشارب كولونيل مدني، والذي كان لي حتى سن الأربعين، ونظارة طالب معهد ديني معدنية لم أعد أحتاجها بعد تجاوزي نصف القرن. لقد رأيت هذه الصورة من قبل معلقة في مكاتب عديدة، ولكنني لم أتحسس رسالتها إلا في تلك اللحظة: من الثمانية وأربعين موظفا الأصليين لم يبق سوى أربعة على قيد الحياة. وأصغرنا يقضي عقوبة بالسجن عشرين سنة لجريمة قتل متعدد.
    أنهى المدير المكالمة وفاجأني وأنا أنظر على الصورة فابتسم قائلا: الصلبان لم أضعها أنا، وأظن أنها مزعجة. جلس إلى المكتب وبدل نبرة صوته: اسمح لي أن أقول لك إنك أكثر الرجال الذين عرفتهم تهورا. وحيال مفاجأتي قال مستبقا كل شيء: أقول هذا بسبب استقالتك. وتمكنت من أن أقول له: إنها حياة كاملة. فرد هو بان هذا بالضبط هو السبب في عدم كون الاستقالة هي الحل المناسب. فقد بدت له المقالة رائعة، وكل ما تقوله عن الشيخوخة هو من أفضل ما قرأه على الإطلاق وليس هناك من معنى لإنهائها بقرار يبدو أشبه بإعلان موتي مدنيا. وقال: لحسن الحظ أن (رجل الساعة التاسعة البغيض) قرأها، بعد أن كانت صفحة الافتتاحية مخرجة، وبدت له غير مقبولة. ودون أن يبحث الأمر مع أحد شطبها من أعلاها إلى أسفلها بقلمه التوركيمادي، وعندما علمت بالأمر هذا الصباح أرسلت ملاحظة احتجاج إلى مكتب المحافظ. هذا هو واجبي، ولكن يمكنني أن أقول لك بيننا إنني شاكر جدا لتعسف الرقيب. مع أنني لم أكن مستعدا لآن أوافق على شطبه المقالة. وقال: أتوسل إليك من أعماق روحي. لا تغادر السفينة في عرض البحر. ثم أنهىا بأسلوب بديع: ما زال لدينا الكثير لقوله في الموسيقى.
    رأيت أنه مصمم جدا، فلم أتجرأ على زيادة حدة الاختلاف بحجة مسلية. المشكلة في الواقع هي أنني لم أجد آنذاك أيضا سببا محترما لمغادرة الناعورة، وقد أرعبتني فكرة القول له نعم مرة أخرى، لمجرد كسب الوقت. وكان علي أن أكبح نفسي كيلا يبدو علي التأثر اللعين الذي يستعجل الدموع. ومرة أخرى كالعادة ظللنا على ما كنا علي، بعد كل تلك السنوات الطويلة.
    في الأسبوع التالي، وبينما أنا ضحية حالة هي أقرب إلى التشوش منها إلى السعادة، مررت بمتجر الحيوانات لآخذ الهر الذي أهداه إلي الطباعون. ليس لدي ميل طبيعي إلى الحيوانات، وهو الإحساس نفسه الذي أشعر به تجاه الأطفال قبل أن يبدؤوا التكلم، لأنهم يبدون لي بكم الروح. لست أكرههم، ولكنني لا أستطيع تحملهم، لأني لم أتعلم التعامل معهم. يبدو لي أمرا مخالفا للطبيعة أن يتمكن رجل من التفاهم مع كلبه أكثر من تفاهمه مع زوجته، فيعلمه الأكل وعدم الأكل في مواعيد محددة، والرد على أسئلته ومشاطرته أحزانه. ولكن امتناعي عن أخذ هر الطباعين، يمكن له أن يكون كارثة. أضف إلى ذلك: أنه قط أنغورا بديع، له وبر وردي مصقول، وعينان لامعتان، ويبدو مواؤه كما لو أنه على وشك أن يكون كلاما. قدموه لي في سلة من الخيزران، مع شهادة لسلالته، وكراس استخدام مثل الذي يقدم مع الدراجات لتركيبها.
    كانت هناك دورية عسكرية تدقق في وثائق إثبات شخصية العابرين قبل السماح لهم بالمرور عبر حديقة سان نيكولاس. لم أر قط شيئا مماثلا، ولا يمكنني أن أتصور شيئا أشد تثبيطا للعزيمة كعلامة على شيخوختي. كانت دورية من أربعة شرطيين، يقودها ضابط يكاد يكون مراهقا. كان الشرطيون رجالا من المناطق الباردة، قساة صامتين، ولهم رائحة إسطبل، وكان الضابط يراقبهم جميعها بخديه الأنديزيين المحروقين على الساحل. بعد تفحص بطاقة هويتي وبطاقة اعتمادي الصحفية سألني عما أحمله في السلة. فقلت له: هر. أراد رؤيته. فرفعت غطاء السلة بكل حذر، خوفا من أن يهرب، ولكن شرطيا أراد أن يرى إذا لم يكن هناك شيء آخر، في قاع السلة، فوجه إليه القط ضربة من مخالبه. تدخل الضابط قائلا: إنه هر أنغورا ثمين. وداعبه بينما هو يتمتم بشيء، فلم يهاجمه القط، ولكنه لم يوله اهتمامه أيضا. سألني: كم سنة عمره؟ فقلت له: لا أدري، لقد أهدي إلي للتو. قال: إنني أسأل لأنه يبدو مسنا جدا، ر بما عمره عشر سنوات. أردت أن أسأله كيف يعرف ذلك وأشياء كثيرة أخرى، ولكن غيظي من أسلوبه المهذب، وطريقته المتدفقة في الكلام، أشعرتني بأنه ليس لدي معدة لتحمل التحدث إليه. وقال: يبدو لي أنه هر مهجور، تبادله أناس كثيرو. لن تجعله يتكيف معك، وإنما أنت الذي ستتكيف معه. اتركه على هواه، إلى أن تكسب ثقته. أطبق غطاء السلة، وسألني: ماذا تشتغل حضرتك؟ صحفي. منذ متى؟ فقلت له: منذ نحو قرن. شد على يدي وودعني بعبارة يمكن لها أن تكون نصيحة طيبة أو تهديدا على السواء:
    - انتبه لنفسك.
    فصلت الهاتف عند الظهيرة كي ألوذ بالموسيقى في برنامج بديع: رابسودية كلارينيت وأوركستا لفاغنر، وساكسيفون لديبوس، والخماسي الوتري لبروكنر، وهذه الأخيرة هي سكينة عدنية في كارثية أعماله. ووجدت نفس محاطا بظلمة المكتب. أحسست بشيء ينسل تحت طاولتي، لم يكن جسدا حيا وإنما حضورا خارقا للطبيعة احتكّ بقدمي، فقفزت صارخا. كان الهرّ بذيله الوبري البديع، وتثاقله الغامض، وسلالته الأسطورية، ولم أستطع كبح قشعريرة إحساسي بأنني وحيد في البيت، مع كائن غير بشري.
    عندما دقت الساعة السادسة في الكاتدرائية، كانت هناك نجمة وحيدة ونظيفة في السماء ذات اللون الوردي، أطلقت سفينة صفير وداع محزون، وأحسست في حلقي بعقدة من المستحيل حلها، لكل الغراميات التي كان يمكن له أن تكون ولم تكن. لم أستطع تحمل المزيد. رفعت سماعة الهاتف وقلبي في فمي، وأدرت الأرقام الأربعة ببطء شديد كيلا أخطئ، ولدى الرنين الثالث تعرفت على الصوت. حسن يا امرأة، قلت لها بزفرة ارتياح، وتابعتُ: اعذريني على نزقي هذا الصباح. فقالت بهدوء: لا تقلق، كنت أنتظر مكالمتك، فنبهتها: أريد أن تنتظرني الطفلة مثلما ألقى الله بها إلى الدنيا، ودون أصبغة على وجهها. ضحكت هي ضحكة مجلجلة، وقالت: كما تشاء، ولكنك ستفقد متعة تعريتها قطعة فقطعة، مثلما يفتتن المسنّون، ولست أدري السبب. فقلت: أما أنا فأعرفه: لأنهم يشيخون أكثر فأكثر. واعتبرت هي الأمر ناجزا. فقالت:
    - حسن، هذه الليلة إذن، في العاشرة تماما، قبل أن تبرد السمكة.
    يتبع......
    سلموز
    [/size]
    بحر الرومنسية
    بحر الرومنسية


    ذكر
    846
    37
    [ღǾॠ[ღǾॠبحر الرومنسية [ღǾॠ[ღǾॠ
    مصمم أعلامي
    المزح وحب الناس
    61240
    16/02/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف بحر الرومنسية السبت فبراير 23, 2008 8:16 pm

    مشكورررررررررررررررررر ياغالي

    سلمت يدك

    تقبلي مروري
    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله الإثنين فبراير 25, 2008 6:47 pm

    الفصل الثالث
    كيف يمكن أن يكون اسمها؟ صاحبة المحل لم تخبرني به. عندما حدثتني عنها لم تكن تسميها إلا: "الطفلة". وقد حولته أنا إلى اسم شخصي، كما هي طفلة العينين [بؤبؤ العين]، أو السفينة الطفلة [أصغر سفن كولومبس الثلاث]. وروسا كاباركاس تضع لفتياتها، فوق ذلك، اسما مختلفا مع كل زبون. وقد كنت أستمتع بتخمين أسمائهن من خلال ملامح وجوههن. ومنذ البدء كنت متأكدا من أن للطفلة اسما طويلا، مثل فيلومينا، أو ساتورنينا، أو نيكولاسا. كنت مستغرقا في التفكير في هذا الأمر عندما انقلبت هي نصف دورة، في السرير، وصارت توليني ظهرها، بدا لي كما لو أنها قد خلفت، في حركتها، بركة دم لها حجم جسدها وشكله. كانت مفاجأة آنية، إلى أن أدركت أنه بلل العرق على الملاءة.
    كانت روسا كاباركاس قد نصحتني بأن أعاملها بحرص، لأن خوف المرة الأولى ما زال مسيطرا عليها. بل أكثر من ذلك، أظن أن مهابة هذا الطقس قد فاقمت من خوفها، وكان عليها أن تزيد لها جرعة الفاليريانا المهدئة. لأنها كانت تنام بوداعة، يبدو من المحزن معها إيقاظها دون تهديل. وهكذا رحت أمسح عرقها بالمنشفة، وأنا أغني لها هامسا أغنية دليغادينا، ابنة الملك الصغرى، التي جاهر أبوها بحبها. وكلما مسحت مكانا، كانت تكشف لي جانبا آخر متعرقا، على إيقاع أغنيتي: (ديلغادينا، أنت ستكونين محبوبتي العزيزة). كانت متعة بلا حدود، فقد كان أحد جانبيها يتعرق من جديد، عندما أنتهي من مسح الجانب الآخر، كيلا تنتهي الأغنية أبدا. وغنيت في أذنها: (انهضي يا ديلغادينا، والبسي تنورتك الحريرية). وأخيرا عندما وجدها خدم الملك ميتة من العطش في فراشها، بدا لي أن طفلتي على وشك أن تستيقظ وهي تسمع الاسم: إنها هي إذن: ديلغادينا.
    رجعت إلى السرير بسروالي الداخلي المطبع بالقبلات، واستلقيت بجانبها. نمت حتى الخامسة على هدهدة تنفسها الهادئ. ارتديت ملابسي بأقصى سرعة دون أن أغتسل، وعندئذ فقط رأيت الكتابة، بقلم أحمر الشفاه، على مرآة المغسلة: (النمر لا يأكل بعيدا). أعرف أن هذه الكتابة لم تكن موجودة في الليلة السابقة، وأنه لا يمكن أن يكون أحد قد دخل الغرفة، فاعتبرتها معلقة الشيطان. فاجأني عند الباب رعد مرعب، وامتلأت الحجرة برائحة التراب المبلل المنذرة. لم أجد الوقت الكافي للهرب سليما. فقبل أن أعثر على سيارة أجرة هطل وابل عظيم. من تلك الأمطار التي تنشر الفوضى في المدينة بين شهري أيار وتشرين الأول. فشوارع الرمل الملتهب التي تنحدر باتجاه النهر، تحولت إلى سيول تجرف كل ما تجده في طريقها. يمكن لمياه أيلول الغريبة تلك بعد ثلاثة أشهر من الجفاف، أن تكون آتية من العناية الإلهية أو مدمرة على السواء.
    منذ أن فتحت باب البيت، خرج للقائي إحساس مادي بأنني لست وحدي. تمكنت من رؤية نذر الهر الذي قفز عن الصوفا وتوارى في الشرفة. كانت لا تزال هناك في طبقه بقايا طعام لم أقدمه أنا إليه. وكانت رائحة بوله الزنخ وبرازه الساخن تلوث كل شيء. كنت قد عكفت على دراسته، مثلما درست اللغة اللاتينية. الكراس المرجعي يقول إن القطط تحفر في الأرض، لإخفاء برازها، وفي البيوت التي ليس فيها فناء مثل هذا البيت يفعل القط ذلك في أصص نباتات الزينة، أو في ركن خفي آخر، والحل المناسب هو أن يؤمن له. منذ اليوم الأول صندوق مملوء بالرمل، لتوجيه عاداته، وهذا ما فعلته. ويقول الكراس أيضا إن أول ما تفعله القطط في بيت جديد، هو تحديد مجالها الخاص، بالتبول في كل الأنحاء، وربما كان هذا هو الوضع الذي أواجهه. ولكن الكراس لا يشير إلى كيفية معالجة ذلك. تتبعت آثاره كي أتآلف مع عاداته الأصلية، ولكنني لم أصل إلى مخابئه السرية وأماكن راحته، وأسباب تقلب أهوائه، أردت تعليمه الأكل في مواعيد محددة واستعمال صندوق الرمل على الشرفة وعدم الصعود إلى سريري وأنا نائم، وعدم تشمم الأطعمة على المائدة، ولم أتمكن من جعله يفهم أن هذا البيت له كحق شرعي وليس كغنيمة حرب. ولهذا تركته على هواه.
    عند الغروب واجهت وابل المطر، وكانت رياحه الإعصارية تهدد باقتلاع البيت. عانيت من نوبة عطاس متتال، وأصبت بألم في رأسي وبحمى، ولكنني كنت أشعر بامتلاك قوة وتصميم لم أمتلك مثلهما في أي مرحلة عمرية أخرى، ولا في سبيل أية قضية. وضعت قدورا على الأرض، لالتقاط الماء المتسرب من ثقوب السقف، وانتبهت إلى أن هناك ثقوبا أخرى قد ظهرت منذ الصيف الفائت. أكبرها بدا يغرق الجانب الأيمن من المكتبة. سارعت إلى إنقاذ الكتّاب الإغريق واللاتينيين الذين يعيشون في ذلك الجانب، ولكنني ما إن رفعت الكتب حتى وجدت تدفق ماء عالي الضغط، يخرج من أنبوب مكسور داخل الجدار. خففت من التدفق بخِرق، قدر استطاعتي، كي اتيح لنفسي الوقت لإنقاذ الكتب. ازداد صخب الماء وعويل الريح في الحديقة. وفجأة ملأ برق شبحي ورعده المرافق الجو برائحة كبريت قوية. هشمت الريح زجاج الشرفة. وكسرت عاصفة البحر العاتية الأقفال ودخلت إلى البيت. ومع ذلك وقبل انقضاء عشر دقائق، توقف المطر فجأة. جففت شمس بديعة الشوارع الممتلئة بأنقاض جانحة، ورجع الحر.
    عندما انقطع وابل المطر، كنت لا أزال على إحساسي بأنني لست وحيدا في المنزل. تفسيري الوحيد هو أنه مثلما هناك وقائع واقعية تنسى، فإن هناك أيضا وقائع لم تحدث قط، ويمكن لها أن تظل في الذاكرة، كما لو أنها حدثت فعلا. والمسألة أنني عندما أستذكر التعجل الذي تصرفت به خلال وابل المطر، فإنني لا أرى نفسي وحيدا في البيت، وإنما برفقة ديلغادينا على الدوام. شعرت بها قريبة جدا مني في تلك الليلة، حتى أنني أحسست بإيقاع أنفاسها في غرفة النوم، وبنبض خدها على وسادتي، وهكذا فقط أدركت كيف أمكن لنا أن نفعل أشياء كثيرة في مثل ذلك الوقت الكثير. أتذكر نفسي وأنا أقف فوق مقعد المكتبة الذي بلا مسند، وأتذكرها مستيقظة بفستانها المطبع بأزهار تتلقى الكتب مني لتضعها في مكان آمن. أراها تركض من جانب إلى آخر في البيت، وهي تصارع العاصفة، مبللة بالمطر وبماء الأنابيب. أتذكر كيف أعدت في صباح اليوم التالي فطورا لم يكن قط، وكيف رتبت المائدة وأنا أمسح الماء من أرضية الغرف، وأرتب البيت الغارق. لم أنس قط نظرتها المكفهرة، ونحن نتناول الفطور: لماذا تعرفت إلي وأنت عجوز؟ وأجبتها بالحقيقة: ليست السن هي ما بلغه أحدنا من العمر، بل ما يشعر به.
    منذ ذلك الحين صارت موجودة في ذاكرتي، بوضوح يمكنني معه أن أفعل بها ما أشاء. أبدل لون عينيها حسب حالتي المعنوية: لون الماء عند الاستيقاظ، لون قطر القصب حين تضحك، لون الضوء عندما أعارضها. وألبسها حسب السن والظروف التي تتلاءم مع تبدلات مزاجي: ثياب عروس محبة في العشرين، وعاهرة صالون في الأربعين، وملكة بابلية في السبعين، وقديسة في المئة. نغني ثنائيات حب على موسيقى بوتشيني، وألحان بوليرو لأوغسطين لارا، وأغنيات تانغو لكارلوس غارديل، ونبرهن لنفسينا مرة أخرى أن من لا يغنون لا يمكنهم أن يتصوروا، مجرد تصور، ما هي سعادة الغناء. اليوم أعلم أن ذلك لم يكن أضغاث أحلام، وإنما معجزة أخرى من معجزات حب حياتي الأول، وأنا في التسعين.
    عند الانتهاء من ترتيب البيت، اتصلت بروسا كاباركاس، فهتفت حين سمعت صوتي: يا للرب المقدس! ظننت أنك قد غرقت. ولم يكن بإمكانها تفهم كيف أنني عدت لقضاء ليلة أخرى مع الطفلة، دون أن ألمسها. لك كامل الحق في ألا تعجبك، ولكن عليك أن تتصرف كراشد. حاولت أن أوضح لها ولكنها بدلت الموضوع دون تمهيد: لقد وجدت لك على أي حال واحدة أخرى، أكبر قليلا، جميلة وعذراء كذلك. أبوها يريد استبدالها ببيت ولكن يمكننا المساومة على تخفيض. تجمد قلبي. لم يكن ينقصني إلا هذا، اعترضت مذعورا دون إخفاق كالعادة ودون مشاجرات ودون ذكريات سيئة. ساد الصمت خط الهاتف، وأخيرا جاء الصوت المذعن الذي قالت به كما لو أنها تكلم نفسها: حسن، لا بد أن هذا هو ما يسميه الأطباء عته الشيخوخة.
    ذهبت في العاشرة ليلا، مع سائق معروف بفضيلة عدم توجيه أسئلة غريبة. أخذت معي مروحة نقالة، ولوحة لأورلاندو ريفيرا، العزيز (فيغوريتا)، ومطرقة ومسمارا لتعليق اللوحة. توقفت في الطريق لشراء فرشاة أسنان ومعجون وصابون معطر، وماء كولونيا، وأقراص عرق سوس. وأردت أن آخذ كذلك مزهرية جيدة، وباقة أزهار صفراء لطرد بلاهة الأزهار الورقية، ولكنني لم أجد محلا مفتوحا، فاضطررت إلى أن أسرق من حديقة خاصة، باقة أزهار أستروميلا حديثة التفتح.
    وبناء على تعليمات صاحبة المحل، صرت أدخل من ذلك اليوم من الشارع الخلفي، من جهة المجرى المائي، كيلا يراني أحد داخلا من البوابة المطلة على البستان. وقد حذرني السائق: حذار أيها العالم. ففي هذا البيت يقتلون. وأجبته: ليس مهما، إذا كان القتل قتلا بدافع الحب. كان الفناء مظلما، إلا أنه كانت هناك أنوار حياة في النوافذ، وصخب موسيقى في الحجرات الست. وفي حجرتي، بصوت أعلى من الأخريات، ميزت الصوت الدافئ لبيدرو بارغاس، تينور أميركا، في لحن بوليرو لميغل ماتاموروس. أحسست أنني سأموت. دفعت الباب بأنفاس مقطوعة، ورأيت ديلغادينا في السرير، مثلما هي في ذكرياتي: عارية ونائمة في سلام مقدس على جانب قلبها.
    وقبل أن أستلقي في السرير رتبت خوان الزينة، ووضعت المروحة الجديدة محل الصدئة، وعلقت اللوحة حيث يمكنها رؤيتها من السرير. استلقيت إلى جوارها، وتفحصتها شبرا فشبرا. إنها هي نفسها التي كانت تجوب أنحاء بيتي: اليدان نفسيهما اللتان تتعرفان إلي باللمس في الظلام، القدمان نفسيهما بخطواتهما الخفيفة التي يمكن الخلط بينها وبين خطوات القط، رائحة العرق نفسها التي تفوح من ملاءاتي، وأصبع الكشتبان. أمر لا يصدق: فأنا أراها وألمسها وهي من لحم وعظم فتبدو لي أقل واقعية مما هي عليه في ذكرياتي.
    قلت لها: توجد لوحة على الجدار المقابل، رسمها فيغوريتا، وهو رجل أحببناه كثيرا، وأفضل راقص مواخير وجد على الإطلاق، وطيب القلب إلى حد أنه كان يشفق على الشيطان، رسمها بورنيش السفن على كتان محترق الأطراف، من طائرة انفجرت في جبال سييرا نيفادا، بالقرب من مدينة سانتا مارتا، وبرياش صنعها بنفسه من وبر كلب.
    المرأة المرسومة هي راهبة اختطفها من دير وتزوجها. إنني أترك اللوحة هنا لتكون أول شيء ترينه عندما تستيقظين.
    لم تكن قد بدلت وضعها عندما أطفأت النور في الواحدة بعد منتصف الليل، وكان تنفسها خفيفا إلى حد أنني أمسكت معصمها، لأجس نبضها وأتأكد من أنها حية. كانت الدماء تنساب في عروقها بتدفق أغنية تتفرع حتى أكثر الأركان خفية في جسمها، وتعود إلى القلب المطهر بالحب.
    وقبل أن أغادر عند الفجر رسمت خطوط راحة يدها على ورقة، وقدمتها إلى العرافة ديفا ساهبي لمعرفة روحها. فكانت هكذا: إنها خطوط يد شخصية لا تقول إلا ما تفكر فيه. وهي مؤهلة تماما للأعمال اليدوية. كانت لها اتصالات مع شخص مات، وهي تنتظر مساعدة منه، ولكنها مخطئة: فالمساعدة التي تبحث عنها في متناول يدها. لم تقم أي ارتباط ولكنها ستموت متقدمة في السن ومتزوجة. لديها الآن رجل أسمر، لن يكون رجل حياتها. وسيكون بإمكانها أن تنجب ثمانية أبناء، ولكنها ستقتصر على ثلاثة فقط. في الخامسة والثلاثين من عمرها ستفعل ما يمليه عليها القلب وليس العقل، وسيكون لديها مال كثير، وفي الأربعين ستتلقى ميراثا. ستسافر كثيرا. لها حياة مزدوجة وحظ مزدوج، ويمكن لها أن تؤثر على قدرها. تحب أن تجرب كل شيء بدافع الفضول، ولكنها ستندم إذا لم تأخذ بتوجيهات قلبها.
    ومعذبا بالحب قمت بإصلاح الأضرار التي سببتها العاصفة وانتهزت الفرصة لإجراء ترميمات كثيرة كنت أؤجلها منذ سنوات، لعدم القدرة على تكاليفها أو بسبب الإهمال والتراخي. أعدت تنظيم المكتبة، وفق الترتيب الذي قرأت فيه الكتب. وأخيرا بعت الأرغن الميكانيكي في مزاد، كتحفة تاريخية، مع لفافاته الموسيقية الكلاسيكية التي تزيد على مئة واشتريت فونوغرافا مستعملا، لكنه أفضل من الذي لدي، مع مكبرات صوت عالية الدقة، ضخمت أجواء البيت. فصرت على حافة الإفلاس، ولكن مع تعويض جيد، بمعجزة بقائي حيا وأنا في هذه السن. كان البيت يولد من رماده، وأنا أبحر في حب ديلغادينا بزخم وسعادة لم أعرفهما قط في حياتي السابقة. وبفضلها تواجهت أول مرة مع كياني الطبيعي فيما سنتي التسعون تمضي. اكتشفت أن وسواسي بأن يكون كل شيء في مكانه وكل مسألة في وقتها وكل كلمة بأسلوبها ليس المكافأة المستحقة لذهن مرتب، بل هو على العكس من ذلك، نظام تصنع ابتدعته نفسي لمواراة فوضاء الطبيعية. اكتشفت أنني لست منضبطا بدافع الفضيلة وإنما كرد فعل على تهاوني وتقصيري؛ وأنني أبدو سخيا لكي أواري خستي، وأنني أتظاهر بالتعقل والحذر لأنني سيئ الظنون، وأنني أميل إلى المصالحة كيلا أنقاد لنوبات غضبي المكبوحة، وأنني دقيق في مواعيدي لمجرد ألا يعرف مدى استهانتي بوقت الآخرين. واكتشفت أخيرا أن الحب ليس حالة روح وإنما هو علامة بروج فلكية.
    صرت شخصا آخر. حاولت قراءة الكلاسيكيين الذين وجهوني في صباي فلم أستطع ذلك. أغرقت نفسي في الآداب الرومانسية التي نفرت منها عندما أرادت أمي فرضها علي بالقوة. ومنها توصلت إلى أن أعي أن القوة الغلابة التي دفعت العالم قدما، ليست في الغراميات السعيدة، وإنما في الغراميات المعاكسة. وعندما تعرض ذوقي الموسيقي لأزمة اكتشفت كم أنا متأخر وهرم، وفتحت قلبي لمتع المصادفات.
    إنني أتساءل كيف أمكن لي أن أرزح تحت وطأة هذا الدوار الأبدي الذي أسببه أنا نفسي وأخشاه. كنت أطفو بين غيوم تائهة، وأكلم نفسي قبالة المرآة، سعيا إلى الوهم الباطل بمعرفة من أنا. وبلغ هذياني حدا في إحدى المظاهرات الطلابية بالحجارة والزجاجات، أن استجمعت قوة من ضعفي كيلا أتصدر المظاهرة بلافتة تكرس حقيقتي: ( إنني مجنون بالحب).
    ومغشي علي باستذكار ديلغادينا النائمة، دون هوادة، بدلت دون أدنى خبث روح مقالاتي في أيام الآحاد. فصرت أكتبها لها، أيا كانت المسألة التي أطرحها. كنت أضحك في مقالاتي أو أبكي من أجلها وفي كل كلمة منها تستنفد حياتي. وبدلا من صيغة التعليق المحلي التقليدي التي كانت عليه منذ الأزل، صرت أكتبها كرسائل حب، يمكن لأي كان أن يعتبرها له. اقترحت على الجريدة ألا يطبع النص بحروف اللينوتيب الطباعية، وإنما بخطي المنمق. وبدا الأمر لرئيس التحرير ، كيف لا، مجرد إفراط آخر في غرور الشيخوخة، لكن المدير العام أقنعه بجملة ما زالت تمضي طليقة في قاعة التحرير:
    مقلاع_حنظله
    مقلاع_حنظله


    ذكر
    63
    38
    مافيش
    رايق
    61470
    24/01/2008

    ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز Empty رد: ذاكرة غانياتي الحزينات ........... غابرييل ماركيز

    مُساهمة من طرف مقلاع_حنظله الإثنين فبراير 25, 2008 6:49 pm

    - لا تخطئ: فالمجانين الوديعون يستبقون المستقبل.
    وكان الرد الشعبي فوريا وحماسيا، في الكثير من رسائل القراء العاشقين، وبعض السطور في نشرات الأخبار المستعجلة لآخر ساعة. واستنسخت منها نسخا بمحاكاة الخط يدويان أو باستخدام ورق الكربون، وكانت تباع مثل السجائر المهربة على نواصي شارع سان بلاس. كان جليّا منذ البداية، أنها تستجيب للهفتي في التعبير عن حالتي، ولكنني تعودت على أخذ ردود الفعل تلك بالاعتبار وأنا أكتب، ودائما بصوت رجل في التسعين من عمره، لم يتعلم التفكير كعجوز هرم. أبدى الوسط الثقافي، كما هي عادته، الفزع والانقسام: وحتى خبراء الخطوط الذين لا يخطرون على بال أحد، عقدوا مناظرات حول التحاليل الخاطئة لخطي. وكانوا هم من قسموا التوجهات الحماسية وأحموا النقاش، وجعلوا من الحنين موضة رائجة.
    قبل انتهاء السنة كنت قد رتبت مع روسا كاباركاس من أجل الإبقاء في الغرفة على المروحة الكهربائية ومستحضرات التجميل على خوان الزينة، وما سأواصل إحضاره إليها في المستقبل، لجعلها صالحة للمعيشة. كنت أصل في العاشرة على الدوام حاملا شيئا جديدا لها، أو مناسبا لذوقنا نحن الاثنين، وأكرس بضع دقائق لإخراج الأشياء المخبّأة، وترتيب مسرح ليالينا، وقبل أن أغادر، ليس بعد الخامسة على الإطلاق، أعود لحفظ كل شيء وتأمينه وراء قفل. فتصير الحجرة عندئذ هزيلة، مثلما كانت في الأصل، للغراميات الحزينة للزبائن العابرين .
    في صباح أحد الأيام سمعت أن ماركوس بيريث، أوسع الأصوات شعبية في الإذاعة منذ الفجر، قد قرر قراءة مقالتي الأحدية في برنامجه الإخبارية أيام الاثنين. وعندما تمكنت من كبح غثياني قلت متفاجئا: أنت تعرفين يا ديلغادينا، الشهرة سيدة بدينة لا تنام مع المرء، ولكنه حين يستيقظ يجدها تنظر إليه قبالة السرير.
    في واحد من تلك الأيام بقيت لتناول الفطور مع روسا كاباركاس، وكانت قد بدأت تبدو لي أقل هرما على الرغم من الحداد الصارم والقلنسوة السوداء التي تصل حتى حاجبيها. كانت وجبة الفطور التي تعدها مشهورة بروعتها، مع شحنة من الفلفل الحار أنزلت دموعي. ومع لقمة النار الحارقة الأولى، قلت لها مستحما بالدموع: لن أحتاج هذه الليلة إلى قمر مكتمل كي أصاب بحرقة في شرجي. فقالت هي: لا تتذمر، إذا كان يحرقك فلأنه لا يزال موجودا لديك، بحمد الله.
    أبدت استغرابها عندما ذكرت أمامها اسم ديلغادينا. فقالت: هذا ليس اسمها. لأن اسمها. فقاطعتها: لا تخبريني به، فهي ديلغادينا بالنسبة لي. هزت كتفيها: حسن، إنها لك في نهاية المطاف، ولكنه يبدو لي اسما مدرّا للبول. أخبرتها بعبارة النمر التي كتبتها الطفلة على المرآة. فقالت روسا: لا يمكن أن تكون هي من فعلت ذلك، لأنها لا تعرف القراءة والكتابة. من كتبها إذن؟ فهزت كتفيها: يمكن أن يكون شخصا قد مات في الغرفة.
    كنت أنتهز جلسات الفطور تلك لأفرج عن نفسي، وافتح قلبي لروسا كاباركاس، وألتمس منها تقديم خدمات ضئيلة، من أجل راحة ديلغادينا وحسن مظهرها. وكانت تمنحني تلك الخدمات دون أن تفكر فيها، بشيطنة تلميذة. وقد قالت لي في تلك الأيام: يا له من أمر مضحك! أشعر كما لو أنني أطلب يدها. وخطرت لها الفكرة: وبالمناسبة، لماذا لا تتزوجها؟ أصبت بالتجمد. فألحت هي: بجد، سيكون ذلك أرخص لك. ولمشكلة في سنك هذه، في نهاية المطاف، هي إن كنت تنفع أم لا، وقد أخبرتني بأن هذه المشكلة محلولة. فاعترضتها: الجنس هو العزاء الذي يلجأ إليه المرء عندما لا يحصل على الحب.
    أفلتت هي ضحكتها: آي، يا عالمي، لقد كنت أعرف على الدوام أنك رجل، وقد كنت كذلك دوما، ويسعدني أنك ما زلت، بينما يسلم أعداؤك أسلحتهم. إنهم محقون بالإكثار من الحديث عنك. هل سمعت ماركوس بيريث؟ فقلت لها، لأقطع الموضوع: الجميع يستمعون إليه. ولكنها ألحت: وكذلك البروفوسور كاماتشو كانو، قال بالأمس، في برنامج "ساعة لقليل من كل شيء"، إن العالم لم يعد مثلما كان، لأنه لم يبق فيه رجال كثيرون من أمثالك.
    في نهاية ذلك الأسبوع، وجدت دليغادينا مصابة بالحمى والسعال. أيقظت روسا اكاباركاس كي تعطيني دواء بيتيا ما، فحملت إلي، في الغرفة، صيدلية إسعافات أولية. بعد يومين من ذلك كانت صحة ديلغادينا لا تزال واهنة، ولم تستطع العودة إلى عملها الروتيني في تركيب الأزرار. كان الطبيب قد وصف لها علاجا بيتيا من زكام عادي، يخف خلال أسبوع، ولكنه ذعر لحالة سوء تغذيتها العامة. توقفت عن رؤيتها وأحسست أنني أفتقدها، فانتهزت الفرصة لأرتب الغرفة في غيابها.
    حملت إلى هناك أيضا رسما بالقلم لسيسيليا بوراس، رسمته من أجل (جميعنا في الانتظار)، كتاب قصص قصيرة لألفارو سبيدا. وأخذت أيضا الأجزاء السبعة من رواية "جوان كريستوفر" لرومان رولان، كي أرعى سهراتي. وعندما استطاعت ديلغادينا العودة إلى الغرفة، وجدتها جديرة بسعادة مستقرة: الهواء المنقى بمضاد حشرات معطر، جدران مطلية بلون وردي، مصابيح خافتة، أزهار جديدة في المزهريات، كتبي المفضلة، أفضل لوحات أمي معلقة بطريقة أخرى، وفق ذوق هذه الأيام. وكنت قد استبدلت المذياع القديم بآخر ذي موجة قصيرة، أبقيته متزامنا مع برنامج موسيقى راقية، كي تتعلم ديلغادينا النوم على رباعيات موزارت. ولكنني وجدته في إحدى الليالي على محطة متخصصة بأغنيات البوليرو الرائجة. إنه ذوقها دون شك، فتقبلته دون ألم، فأنا أيضا عنيت بالبوليرو من قلبي في أفضل أيامي. وقبل أن أرجع إلى البيت، في اليوم التالي، كتبت على المرآة بقلم أحمر الشفاه: (إننا وحيدان في العالم يا طفلتي).
    في هذه الفترة راودني إحساس غريب بأنها تكبر قبل موعدها. تحدثت في الأمر مع روسا كاباركاس، وبدا لها ذلك طبيعيا. فقد قالت لي: ستكمل الخامسة عشرة من عمرها في الخامس من كانون الأول القادم. إنها نموذج كامل لبرج القوس، وأقلقني أنها واقعية إلى حد أن لها عيد ميلاد. ماذا يمكنني أن أهدي إليها؟ فقالت روسا كاباركاس: دراجة. فعليها أن تجتاز المدينة مرتين كل يوم، من أجل الذهاب لتثبيت الأزرار. وأرتني في مستودع الدكان الخلفي، الدراجة التي تستخدمها، وقد بدت لي في الحقيقة، خردة غير جديرة بامرأة محبوبة مثلها. ولكن وجود الدراجة أقنعني، مع ذلك بالدليل الملموس، بأن ديلغادينا موجودة في الحياة الواقعية.
    عندما ذهبت لشراء أفضل دراجة لها، لم استطع مقاومة إغواء تجربتها. وقمت ببعض الجولات العارضة على منصة المتجر المائلة. البائع الذي سألني عن سني أجبته بتدلل الشيخوخة. سأكمل الواحدة والتسعين. فقال الموظف ما كنت أود سماعه بالضبط: إنك تبدو اصغر بعشرين سنة. أنا نفسي لم أفهم كيف ما زلت أحتفظ بممارسات المدرسة، وأحسست أنني مترع بمتعة مشعة. بدأت أغني. غنيت أولا بيني وبين نفسي، بصوت خافت، وبعد ذلك بملء صدري، بزهو كاروسو العظيم، وسط المتاجر المزركشة، وحركة المرور المجنونة في السوق العام. كان الناس ينظرون إلي بمرح، ويصرخون بي، ويحثونني على المشاركة في مسابقة "اجتياز كولومبيا" على الدراجات. فكنت أوجه إليهم بيدي تحية ملاح سعيد، دون أن أوقف الأغنية. في هذا الأسبوع، تكريما لكانون الأول كتبت مقالة جريئة أخرى: (كيف تكون سعيدا على دراجة وأنت في التسعين).
    في ليلة عيد ميلادها غنيت لديلغادينا أغنية أعياد الميلاد كاملة، وقبلتها في كل أنحاء جسمها، إلى أن انقطعت أنفاسي: ألعمود الفقري فقرة فقرة، حتى الردفين الهزيلين، والخاصرة ذات الشامة، في جهة قلبها الذي لا يكل ولا يستنفد. وكلما تماديت في تقبيلها ازدادت حرارة جسدها وأطلق عبقا وحشيا وقد ردت علي بارتعاشات جديدة في كل بوصة من بشرتها، وفي كل بوصة كنت أجد دفئا مختلفا، وطعما خاصا، وأنة جديدة، ورنت كلها من الداخل في دوزان موسيقي، وتفتحت حلمتا نهديها كزهرتين دون لمسهما. بدأت أغفو في الفجر عندما سمعت ما يشبه جلبة حشد في البحر، وهلع أشجار اخترق قلبي. عندئذ ذهبت إلى الحمام، وكتبت على المرآة: ( لقد جاءت نسائم أعياد الميلاد يا ديلغادينا حياتي).
    أحد أكثر ذكرياتي سعادة هو تشوش أحسست به في صباح مثل ذاك، لدى خروجي من المدرسة. ماذا جرى لي؟ فقالت لي المعلمة ببلاهة: آي، أيها الصغير، ألا ترى أنها النسائم؟ بعد ثمانين سنة من ذلك، عدت أشعر الشعور نفسه، عندما استيقظت في سرير ديلغادينا، وكان كانون الأول نفسه الذي يرجع دقيقا في موعده، بسمائه الصافية، وعواصفه الرملية وزوابع الأزقة التي تنزع سقوف البيوت، وترفع تنانير التلميذات.
    المدينة تكتسب عندئذ رنينا شبحيا. في ليالي النسيم، يمكن أن تسمع صرخات السوق العام، حتى في أكثر الأحياء ارتفاعا، كما لو أنها عند المنعطف. ولم يكن غريبا عندئذ أن تتيح لنا هبات كانون الأول العثور على أصدقائنا المبعثرين في مواخير نائية من خلال أصواتهم.
    ومع ذلك، فقد وصلني مع النسائم أيضا، الخبر التعس بأن ديلغادينا لا تستطيع قضاء أعياد الميلاد معي، وإنما مع أسرتها، إذا كان هناك ما أمقته في العالم، فهي الأعياد الإجبارية التي يبكي فيها الناس من السعادة، والألعاب النارية، وأهازيج عيد الميلاد الغبية، وأكاليل ورق الكورنيش التي ليست لها أي علاقة بطفل ولد منذ ألفي عام، في إسطبل فقير. ومع ذلك لم أستطع عندما جاءت ليلة الميلاد، أن أقاوم الحنين، فذهبت إلى الغرفة من دونها. ،نمت جيدا واستيقظت وإلى جانبي دب من فرو، يمشي على قائمتين كما لو كان ديا قطبيا، وبطاقة تقول: إلى بابا القبيح. كانت روسا قد أخبرتني بأن ديلغادينا بدأت تتعلم القراءة من دروسي المكتوبة على المرآة، وقد بدا لي خطها الأنيق رائعا. ولكن روسا نفسها خيبت ظني، بخبر أسوأ حين قالت، إن الدب هدية منها. وهكذا، لم أبق في ليلة الميلاد في بيتي منذ الساعة الثامنة ليلا، ونمت دون مرارة. كنت سعيدا، فمع دقات الساعة الثانية عشرة، ووسط قرع النواقيس الهائجة، وصفارات المصانع وعربات الإطفاء، وأنين السفن، أحسست أن ديلغادينا قد دخلت على رؤوس أصابعها واستلقت إلى جانبي، وقبلتني. كانت واقعية إلى حد ظلت معه رائحة عرق السوس المنبعثة من فمها، عالقة بفمي.
    يتبع......
    سلموز

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 9:08 pm