أنت حامل يا إيمان؟" نطقها بكل فرح وحنين بعد طول الانتظـار الصعـب.. هتف بصوت الحياة: "سنحبه أكثر من أنفسنا.. سنشتري له أحلى الملابس والألعاب، سنضمه طويلاً، سنهبه أروع الأسماء، وحين يكبر سنزوجـه أميـرة البنات".
وجاء محمد.. جاء بعد رحلة علاجٍ عُمرها 5 سنـوات قاسيـة وبطيئة، والقلوب تهتف بألف رجاء: "يا رب".. زغاريد الاستقبال أحاطته من جميع الجهات ودموع الحب هطلت كما الأمطار من عيون والديه.
وهناك في بيتهم المتواضع بدأ مُحمد في غزل أيامه، الأم تُهدهده وتُطيل عناقه، والأب يهمس: "هيا اكبر يا ولدي".. مُحمد ناصر البُرعي لن يكبر ولن يحبو ولن يمشي ولن يلثغ بـ"ماما.. بابا" فطفل الانتظار مات.
5 أشهر فقط كانت تفصل بين صرخة الحياة والموت، وبيـن دمعـة الفـرح والحُزن، وطقوس الاحتضان وآهات التوديع.
سريرٌ بارد
في سريره وضعته الأم بحنان كما تفعل كل ليلة، والده طبع على جبينه القُبل وغادر الغرفة ممُسكًا بكتاب يقرؤه، وفجأة ودونما استئذان طارت جدران المنـزل وانهمرت سيول الغُبار والدمار ورائحة الموت.
غارة إسرائيلية بكامل حقدها استهدفت مقر وزارة الداخلية في حي النصر بمدينة غزة مساء الأربعاء 27-2-2008 أتت بنيرانها على المكان كُله، وامتدت لبيت "البرعي"؛ لتخطف فرحتهم الوحيـدة.
لطالما وطئت "إسلام أون لاين.نت" بيوتًا أثكلها الاحتلال، وزرع الوجع في خاصرتها إلا أن المشهد هذه المرة بدا مُغايرًا لكل الأحزان السابقـة وربما اللاحقة.
الكلمات تكسرت أجنحتها والبحث عن تعبيـرٍ صادق يُجيد وصف ألم الصورة بدا ضربًا من الخيال.
لغة الضاد وقفت خجلى أمام فاجعة أب يبكي وحيده، وأمام أمٍ صفعها غياب قُرة عينها.. ووقفت تبكي بحرقـة بجوار سريرٍ فارغ.. بارد.. يُنادي على مناغاة محمد وأحلامه.. ودُمى تهتف بحرقة: "من بعدك يلمسني".. ودراجـةٌ تسأل عن راكبها؟!.
ناصر البُرعي "31" عامًا شاهدته عيون العالم وهـو يحتضن جثمان وحيده بصبرٍ يُحسد عليه.. بذات الأنفاس تحدث لـ"إسلام أون لاين.نت": "هبط الصاروخ الأول فالثاني، ثم كان الثالث الأشد عنفًا.. انقطع التيار الكهربائي وغرق البيت في ظلامٍ دامس.. بدأت الحجارة تتساقط.. رميت الكتاب من يدي وأسرعت لإنقاذ محمد سمعته يصرخ.. في غرفته اصطدمت ببقايا الأثاث المُدمر".
لمَ حرموني منك؟!
أغمض عينيه وصمت للحظات يُعيد فيها ما مرّ بذاكرته من شريط أحزان: "عاندت الظلام والدمار الهائل لأصل لطفلي.. اقتربت من سريره.. شعرت بالدماء تنزف من جسده، ساعتها لم يصدر عنه أي صوت وهو ما بث الرعب في قلبي.. بدأت الناس تتدفق لإنقاذنا وسيارات الإسعاف هرعت للمكان.. تلقف شقيقي طفلي.. أمسكت بيد زوجتي المُصابة.. في المستشفى لم يتمكن الأطباء من إنقاذه.. ما انهار عليه كان أسرع وأقوى".
بعدها أطرق برأسه حُزنًا تاركًا لقلبه حرية البكاء: "محمد جاءنا بعد رحلة علاج مرهقة للعقم استمرت أكثر من 5 سنوات.. انتظرنا القادم الجميل على أحر من الجمر".
بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل"، وتنهيدة حارة ختم الأب حديثه: "ما يجري في شرايين أطفالنا دماء.. وليس ماء.. بأي ذنب حرموني من وحيدي؟!!.. لم اغتالوا بسمتي وفرحتي؟؟".
محمد لن يتمكن من ركوب الدراجة فصاحبها غادرها وعجلة المشي التي كان يحلم والده بالتصفيق لخطواتها الأولى أضحت رُكامًا، وكأنها تأبى البقاء بعد رحيل قائدها.
"إيمان البرعي" 22 عامًا الأم المكلومة لم تكن تدري أن حليب حبّها لطفلها ليلة أمس كان الأخيـر، وأنه لا رضعات لوحيدها الذي نام إلى الأبد.
في مستشفى الشفاء بغزة انعقد لسانها وما استطاعت النطق.. من بجوارها أخذ يُواسيها ويحثها على الصبر.
لماذا قتلوه؟!
"أم ناصر" جدة الطفل أخذت تتحسس بقايا سرير حفيدها وبغضب الدنيا تساءلت: "أين العالم من طفل يموت في سريره وهو نائم.. صغير لا ذنب له.. كان فرحة وبهجة والديه.. لماذا قتلوه؟!!".
واستدركت بحنق: "ماذا لو كان هذا الطفل إسرائيليًّا؟.. سأترك الإجابة لكم".
تمنت الجدة لو أن محمد كبر لتسمع ضحكاته وتحكي له الحكايات، ويُباغتها على حين غرة فيخطف منها أجمل القبلات.
قبيل استشهاده بساعات قليلة التقط ناصر صورة لمحمد، وكأن قلبه يُخبره بأن ثمة فقدا قادما، فأعد الذكرى وابتسم.
ومثل ناصر، احترقت ليلة أمس ومساء اليـوم عشرات القلوب فصواريخ الاحتلال الإسرائيلي حصدت إلى جانب الرضيع محمد 7 أطفال آخرين خلّف كل واحد منهم قصـة ألم ودمعـة حزن.. وصرخات تلعن الصامتين: "صغار غـزة ما أطلقوا على مدللتكم إسرائيل الصواريخ وما امتصوا قوت العصافير".